فصل: تفسير الآيات رقم (88- 89)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

ولما ذكر العذاب وأقسم على حقيقته، وأنهم لا يفلتون منه، ذكر بعض أحوال الظالمين في الآخرة‏.‏ وظلمت صفة لنفس‏.‏ والظلم هنا الشرك والكفر، وافتدى يأتي مطاوعاً لفدى، فلا يتعدى تقول‏:‏ فديته فافتدى، وبمعنى فدى فيتعدى، وهنا يحتمل الوجهين‏.‏ وما في الأرض أي‏:‏ ما كان لها في الدنيا من الخزائن والأموال والمنافع، وأسروا من الأضداد تأتي بمعنى أظهر‏.‏ قال الفرزدق‏:‏

ولما رأى الحجاج جرد سيفه *** أسر الحروري الذي كان أظهرا

وقال آخر‏:‏

فأسررت الندامة يوم نادى *** برد جمال غاضرة المنادي

وتأتي بمعنى أخفى وهو المشهور فيها كقوله‏:‏ ‏{‏يعلم ما يسرون ما يعلنون‏}‏ ويحتمل هنا الوجهين‏.‏ أما الإظهار فإنه ليس بيوم تصبر ولا تجلد ولا يقدر فيه الكافر على كتمان ما ناله، ولأنّ حالة رؤية العذاب يتحسر الإنسان على اقترافه ما أوجبه، ويظهر الندامة على ما فاته من الفوز ومن الخلاص من العذاب، وقد قالوا‏:‏ ربنا غلبت علينا شقوتنا وأما إخفاء الندامة فقيل‏:‏ أخفى رؤساؤهم الندامة من سفلتهم حياء منهم وخوفاً من توبيخهم، وهذا فيه بعد، لأنّ من عاين العذاب هو مشغول بما يقاسيه منه فكيف له فكر في الحياء وفي التوبيخ الوارد من السفلة‏.‏ وأيضاً وأسروا عائد على كل نفس ظلمت على المعنى، وهو عام في الرؤساء والسفلة‏.‏ وقيل‏:‏ إخفاء الندامة هو من كونهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحسبوه ولا خطر ببالهم، ومعاينتهم ما أوهى قواهم فلم يطيقوا عند ذلك بكاء ولا صراخاً‏.‏ ولا ما يفعله الجازع سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب، كما يعرض لمن يقدم للصلب لا يكاد ينبس بكملة، ويبقى مبهوتاً جامداً‏.‏ وأما من قال‏:‏ إن معنى قوله‏:‏ وأسروا الندامة، أخلصوا لله في تلك الندامة، أو بدت بالندامة أسرة وجوههم أي‏:‏ تكاسير جباههم ففيه بعد عن سياق الآية‏.‏ والظاهر أنّ قوله‏:‏ وقضى بينهم بالقسط، جملة أخبار مستأنفة، وليست معطوفة على ما في حيز لما، وأن الضمير في بينهم عائد على كل نفس ظلمت‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ بين الظالمين والمظلومين دل على ذلك ذكر الظلم انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على المؤمن والكافر‏.‏ وقيل‏:‏ على الرؤساء والأتباع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 56‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قيل‏:‏ تعلق هذه الآية بما قبلها من جهة أنه فرض أنّ النفس الظالمة لو كان لها ما في الأرض لافتدت به، وهي لاشيء لها البتة، لأنّ جميع الأشياء إنما هي بأسرها ملك لله تعالى، وهو المتصرف فيها، إذ له الملك والملك‏.‏ ويظهر أنّ مناسبتها لما قبلها أنه لما سألوا عما وعدوا به من العذاب أحق هو‏؟‏ وأجيبوا بأنه حق لا محالة، وكان ذلك جواباً كافياً لمن وفقه الله تعالى للإيمان، كما كان جواباً للأعرابي حين سأل الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ آلله أرسلك‏؟‏ قوله عليه السلام‏:‏ «اللهم نعم»فقنع منه بإخباره صلى الله عليه وسلم إذ علم أنه لا يقول إلا الحق والصدق، كما قال هرقل‏:‏ لم يكن ليدع الكذب ويكذب على الله انتقل من هذا الجواب إلى ذكر البرهان القاطع على حجته‏.‏ وتقريره بأن القول بالنبوة والمعاد يتفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم، وأنّ ما سواه فهو ملكه وملكه، وعبر عن هذا بهذه الآية، وكان قد استقصى الدلائل على ذلك في هذه السورة في قوله‏:‏ ‏{‏إن في اختلاف الليل والنهار‏}‏ الآية وقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي جعل الشمس ضياء‏}‏ فاكتفى هنا عن ذكرها‏.‏ وإذا كان جميع ما في العالم ملكه، وملكه كان قادراً على كل الممكنات، عالماً بكل المعلومات، غنياً عن جميع الحاجات، منزهاً عن النقائص والآفات، وبكونه قادراً على الممكنات كان قادراً على إنزال العذاب على الكفار في الدنيا والآخرة، وقادراً على تأييد رسوله بالدلائل وإعلاء دينه، فبطل الاستهزاء والتعجيز‏.‏ وبتنزيهه عن النقائص كان منزهاً عن الخلف والكذب، فثبت أن قوله‏:‏ ألا إن لله ما في السموات والأرض مقدمة توجب الجزم بصحة قوله‏.‏ ألا إن وعد الله حق‏.‏ وألا كلمة تنبيه دخلت على الجملتين تنبيهاً للغافل، إذ كانوا مشغولين بالنظر إلى الأسباب الظاهرة من نسبة أشياء إلى أنها مملوكة لمن جعل له بعض تصرف فيها واستخلاف، ولذلك قال تعالى‏:‏ ولكن أكثرهم لا يعلمون يعني‏:‏ لغفلتهم عن هذه الدئل، ثم أتبع ذلك بذكر قدرته على الإحياء والإماتة‏.‏ فيجب أن يكون قادراً على إحيائه مرة ثانية، ولذلك قال‏:‏ وإليه ترجعون، فترون ما وعد به‏.‏ وقرأ الحسن بخلاف عنه، وعيسى ابن عمر‏:‏ يرجعون بالياء على الغيبة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ بالتاء على الخطاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قيل‏:‏ نزلت في قريش الذين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أحق هو‏؟‏ فالناس هم كفار قريش‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ هو خطاب لجميع العالم‏.‏ ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة، ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدّي إليها وهو القرآن، والمتصف بهذه الأوصاف الشريفة هو القرآن‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد، هو شفاء أي‏:‏ دواء لما في صدوركم من العقائد الفاسدة، ودعاء إلى الحق ورحمة لمن آمن به منكم انتهى‏.‏ ومن ربكم يحتمل أن يتعلق بجاءتكم، فمن لابتداء الغاية‏.‏ ويحتمل أن يكون في موضع الصفة أي‏:‏ من مواعظ ربكم، فتتعلق بمحذوف، فمن للتبعيض‏.‏ وفي قوله‏:‏ من ربكم تنبيه على أنه من عند الله ليس من عند أحد‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وجعله موعظة بحسب الناس أجمع، وجعله هدى ورحمة بحسب المؤمنين، وهذا تقسيم صحيح المعنى إذا تؤوّل بأن وجهه انتهى‏.‏ وذكر أبو عبد الله الرازي هنا كلاماً كثيراً ممزوجاً بما يسمونه حكمة، نعلم قطعاً أنّ العرب لا تفهم ذلك الذي قرره من ألفاظ القرآن، وطوّل في ذلك، وضرب أمثلة حسية يوقف عليها من تفسيره، ثم قال آخر كلامه‏:‏ فالحاصل أنّ الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة، والهدى إشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة، والرحمة إشارة إلى كونها بالغة في الكمال، والإشراق إلى حيث تصير تكمل الناقصين وهي النبوّة‏.‏ فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الألفاظ القرآنية، لا يمكن تأخر ما تقدّم ذكره، ولا تقدم ما تأخر ذكره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

قال الزمخشري عن أبيّ بن كعب‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ‏:‏ قل بفضل الله وبرحمته فقال‏:‏ «بكتاب الله والإسلام» فضله الإسلام، ورحمته ما وعد عليه انتهى‏.‏ ولو صح هذا الحديث لم يمكن خلافه‏.‏ قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، وهلال بن يساف‏:‏ فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن‏.‏ وقال الضحاك وزيد بن أسلم عكس هذا، وقال أبو سعيد الخدري‏:‏ الفضل القرآن، والرحمة أن جعلهم من أهله‏.‏ وقال ابن عباس فيما روى الضحاك عنه‏:‏ الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ الفضل الإسلام، والرحمة تزيينه في القلوب‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الفضل والرحمة القرآن، واختاره الزجاج‏.‏ وقال خالد بن معدان‏:‏ الفضل القرآن، والرحمة السنة‏.‏ وعنه أيضاً أنّ الفضل الإسلام، والرحمة الستر‏.‏ وقال عمرو بن عثمان‏:‏ فضل الله كشف الغطاء، ورحمته الرؤية واللقاء‏.‏ وقال الحسين بن فضل‏:‏ الفضل الإيمان، والرحمة الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ الفضل التوفيق، والرحمة العصمة‏.‏ وقيل‏:‏ الفضل نعمه الظاهرة، والرحمة نعمه الباطنة‏.‏ وقال الصادق‏:‏ الفضل المغفرة، والرحمة التوفيق‏.‏ وقال ذون النون‏:‏ الفضل الجنان، ورحمته النجاة من النيران‏.‏ وهذه تخصيصات تحتاج إلى دلائل، وينبغي أن يعتقد أنها تمثيلات، لأن الفضل والرحمة أريد بهما تعيين ما ذكر وحصرهما فيه‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه أنّ الفضل هو هداية الله إلى دينه والتوفيق إلى اتباع الشرع، والرحمة هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على اتباع الإسلام والإيمان‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ قل يا محمد لجميع الناس بفضل الله وبرحمته فليقع الفرح منكم، لا بأمور الدنيا وما يجمع من حطامها، فالمؤمنون يقال لهم‏:‏ فليفرحوا وهم ملتبسون بعلة الفرح وسببه، ومخلصون لفضل الله منتظرون لرحمته، والكافرون يقال لهم‏:‏ بفضل الله ورحمته فليفرحوا على معنى أنْ لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك انتهى‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ قل بفضل الله وبرحمته، فبذلك فليفرحوا جملتان، وحذف ما تتعلق به الباء والتقدير‏:‏ قل بفضل الله وبرحمته ليفرحوا، ثم عطفت الجملة الثانية على الأولى على سبيل التوكيد‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ والتكرير للتقرير والتأكيد، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل‏:‏ إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح، فإنه لا مفروح به أحق منهما‏.‏ ويجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فليعتنوا بذلك، فليفرحوا‏.‏ ويجوز أنْ يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك أي‏:‏ فبمجيئهما فليفرحوا انتهى‏.‏ أما إضمار فليعنتوا فلا دليل عليه، وأما تعليقه بقوله‏:‏ قد جاءتكم، فينبغي أن يقدر ذلك محذوفاً بعد قل، ولا يكون متعلقاً بجاءتكم الأولى للفصل بينهما بقل‏.‏

وقال الحوفي‏:‏ الباء متعلقة بما دل على المعنى أي‏:‏ قد جاءتكم الموعظة بفضل الله‏.‏ وقيل‏:‏ الفاء الأولى زائدة، ويكون بذلك بدلاً مما قبله، وأشير به إلى الاثنين الفضل والرحمة‏.‏ وقيل‏:‏ كررت الفاء الثانية للتوكيد، فعلى هذا لا تكون الأولى زائدة، ويكون أصل التركيب فبذلك ليفرحوا، وفي القول قبله يكون أصل التركيب بذلك فليفرحوا، ولا تنافي بين الأمر بالفرح هنا وبين النهي عنه في قوله‏:‏ ‏{‏لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين‏}‏ لاختلاف المتعلق، فالمأمور به هنا الفرح بفضل الله وبرحمته، والمنهى هناك الفرح بجمع الأموال لرئاسة الدنيا وإرادة العلو بها والفساد والأشر، ولذلك جاء بعده‏:‏ ‏{‏وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا‏}‏ وقبله‏:‏ ‏{‏إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لفرح فخور‏}‏ جاء ذلك على سبيل الذم لفرحه بإذاقة النعماء بعد الضراء، ويأسه وكفرانه للنعماء إذا نزعت منه، وهذه صفة مذمومة، وليس ذلك من أفعال الآخرة‏.‏ وقول من قال‏:‏ إنه إذا أطلق الفرح كان مذموماً، وإذا قيد لم يكن مذموماً كما قال‏:‏ ‏{‏فرحين بما آتاهم الله من فضله‏}‏ ليس بمطرد، إذ جاء مقيداً في الذم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة‏}‏ وإنما يمدح الفرح ويذم بحسب متعلقه، فإذا كان بنيل ثواب الآخرة وإعمال البر كان محموداً، وإذا كان بنيل لذات الدنيا وحطامها كان مذموماً‏.‏

وقرأ عثمان بن عفان، وأبيّ، وأنس، والحسن، وأبو رجاء، وابن هرمز، وابن سيرين، وأبو جعفر المدني، والسلمي، وقتادة، والجحدري، وهلال بن يساف، والأعمش، وعمرو بن قائد، والعباس بن الفضل الأنصاري‏:‏ فلتفرحوا بالتاء على الخطاب، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ وقال وقد جاء عن يعقوب كذلك، انتهى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وقرأ أبي وابن القعقاع، وابن عامر، والحسن‏:‏ على ما زعم هارون‏.‏ ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلتفرحوا وتجمعون بالتاء فيهما على المخاطبة، وهي قراءة جماعة من السلف كثيرة، وعن أكثرهم خلاف انتهى‏.‏ والجمهور بالياء على أمر الغائب‏.‏ وما نقله ابن عطية أن ابن عامر قرأ فلتفرحوا بالتاء ليس هو المشهور عنه، إنما قراءته في مشهور السبعة بالياء أمراً للغائب، لكنه قرأ تجمعون بالتاء على الخطاب، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب‏.‏ وفي مصحف أبي‏:‏ فبذلك فافرحوا، وهذه هي اللغة الكثيرة الشهيرة في أمر المخاطب‏.‏ وأما فليفرحوا بالياء فهي لغة قليلة‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «لتأخذوا مصافكم» وقرأ أبو التياح والحسن‏:‏ فليفرحوا بكسر اللام، ويدل على أنّ ذلك أشير به إلى واحد عود الضمير عليه موحداً في قوله‏:‏ هو خير مما يجمعون، فالذي ينبغي أنّ قوله تعالى‏:‏ بفضل الله وبرحمته، على أنهما شيء واحد عبر عنه باسمين على سبيل التأكيد، ولذلك أشير إليه بذلك، وعاد الضمير عليه مفرداً‏.‏ وقوله‏:‏ مما يجمعون يعني من حطام الدنيا ومتاعها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

مناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه لما ذكر تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم‏}‏ وكان المراد بذلك كتاب الله المشتمل على التحليل والتحريم، بيّن فساد شرائعهم وأحكامهم من الحلال والحرام من غير مستند في ذلك إلى وحْي‏.‏ وأرأيتم هنا بمعنى أخبروني‏.‏ وجوزوا في ما أنزل أن تكون موصولة مفعولاً أولا لأرأيتم، والعائد عليها محذوف، والمفعول الثاني قوله‏:‏ آلله أذن لكم، والعائد على المبتدأ من الخبر محذوف تقديره‏:‏ آلله أذن لكم فيه، وكرر قلْ قبل الخبر على سبيل التوكيد‏.‏ وأن تكون ما استفهامية منصوبة بأنزل قاله‏:‏ الحوفي والزمخشري‏.‏ وقيل‏:‏ ما استفهامية مبتدأة، والضمير من الخبر محذوف تقديره‏:‏ آلله أذن لكم فيه أو به، وهذا ضعيف لحذف هذا العائد‏.‏ وجعل ما موصولة هو الوجه، لأن فيه إبقاء‏.‏ أرأيت على بابها من كونها تتعدى إلى الأول فتؤثر فيه، بخلاف جعلها استفهامية، فإنْ أرأيت إذ ذاك تكون معلقة، ويكون ما قد سدّت مسد المفعولين، والظاهر أنّ أم متصلة والمعنى‏:‏ أخبروني آلله إذن لكم في التحليل والتحريم، فأنتم تفعلون ذلك بأذنه أم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه‏؟‏ فنبه بتوقيفهم على أحد القسمين، وهم لا يمكنهم ادعاء إذن الله في ذلك فثبت افتراؤهم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار، وأم منقطعة بمعنى بل، أتفترون على الله تقريراً للافتراء انتهى، وأنزل هنا قيل معناه‏:‏ خلق كقوله‏:‏ ‏{‏وأنزلنا الحديد‏}‏ ‏{‏وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج‏}‏ وقيل‏:‏ أنزل على بابها وهو على حذف مضاف أي‏:‏ من سبب رزق وهو المطر‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ أنزل لفظة فيها تجوز، وإنزال الرزق إما أن يكون في ضمن إنزال المطر بالمآل، ونزول الأمر به الذي هو ظهور الأثر في المخلوق منه المخترع والمجعول حراماً وحلالاً‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هو ما حكموا به من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هو إشارة إلى قوله‏:‏ ‏{‏وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

ما استفهامية مبتدأة خبرها ظن، والمعنى‏:‏ أي شي ظن المفترين يوم القيامة، أبهم الأمر على سبيل التهديد، والإبعاد يوم يكون الجزاء بالإحسان والإساءة‏.‏ ويوم منصوب بظن، ومعمول الظن قيل‏:‏ تقدير ما ظنهم أّن الله فاعل بهم، أينجيهم أم يعذبهم‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر‏:‏ ما ظن جعله فعلاً ماضياً أي أي ظن الذين يفترون، فما في موضع نصب على المصدر، وما الاستفهامية قد تنوب عن المصدر تقول‏:‏ ما تضرب زيداً تريد أي‏:‏ ضرب تضرب زيداً‏.‏

وقال الشاعر‏:‏

ماذا يغير ابنتي ريع عويلهما *** لا يرقدان ولا بؤسي لمن رقدا

وجيء بلفظ ظنّ ماضياً لأنه كائن لا محالة فكأن قد كان، والأولى أن يكون ظن في معنى يظن، لكونه عاملاً في يوم القيامة‏.‏ وهو ظرف مستقبل، وفضله تعالى على الناس حيث أنعم عليهم ورحمهم، فأرسل إليهم الرسل، وفصل لهم الحلال والحرام، وأكثرهم لا يشكر هذه النعمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏61‏)‏‏}‏

مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جملة من أحوال الكفار ومذاهبهم والرد عليهم، ومحاورة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وذكر فضله تعالى على الناس وأن أكثرهم لا يشكره على فضله، ذكر تعالى اطلاعه على أحوالهم وحال الرسول معهم في مجاهدته لهم، وتلاوة القرآن عليهم، وأنه تعالى عالم بجميع أعمالهم، واستطرد من ذلك إلى ذكر أولياء الله تعالى، ليظهر التفاوت بين الفريقين فريق الشيطان وفريق الرحمن‏.‏ والخطاب في قوله تعالى‏:‏ وما تكون في شأن، وما تتلوا للرسول صلى الله عليه وسلم وهو عام بجميع شؤونه عليه السلام‏.‏ وما تتلوا مندرج تحت عموم شأن، واندرج من حيث المعنى في الخطاب كل ذي شأن‏.‏ وما في الجملتين نافية، والضمير في منه عائد على شأن، ومن قرآن تفسير للضمير، وخص من العموم لأنّ القرآن هو أعظم شؤونه عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على التنزيل، وفسر بالقرآن لأنّ كل جزء منه قرآن، وأضمر قبل الذكر على سبيل التفخيم له‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الله تعالى أي‏:‏ وما تتلوا من عند الله من قرآن‏.‏ والخطاب في قوله‏:‏ ولا تعملون عام، وكذا إلا كنا عليكم شهوداً‏.‏ وولى إلا هنا الفعل غير مصحوب بقد، لأنه قد تقدم الأفعل‏.‏ والجملة بعد إلا حال وشهوداً رقباء نحصي عليكم، وإذ معمولة لقوله‏:‏ شهوداً‏.‏ ولما كانت الأفعال السابقة المراد بها الحالة الدائمة وتنسحب على الأفعال الماضية كان الظرف ماضياً، وكان المعنى‏:‏ وما كنت في شأن وما تلوت من قرآن ولا عملتم من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ أفضتم فيه‏.‏ وإذ تخلص المضارع لمعنى الماضي، ولما كان قوله‏:‏ إلا كنا عليكم شهوداً فيه تحذير وتنبيه عدل عن خطابه صلى الله عليه وسلم إلى خطاب أمته بقوله‏:‏ ولا تعملون من عمل، وإن كان الله شهيداً على أعمال الخلق كلهم‏.‏ وتفيضون‏:‏ تخوضون، أو تنشرون، أو تدفعون، أو تنهضون، أو تأخذون، أو تنقلون، أو تتكلمون، أو تسعون، أقوال متقاربة ثم واجهه تعالى بالخطاب وحده في قوله‏:‏ وما يعزب عن ربك، تشريفاً له وتعظيماً‏.‏ ولما ذكر شهادته تعالى على أعمال الخلق ناسب تقديم الأرض الذي هي محل المخاطبين على السماء، بخلاف ما في سورة سبأ، وإن كان الأكثر تقديمها على الأرض‏.‏

وقرأ ابن وثاب، والأعمش، وابن مصرف، والكسائي، يعزب بكسر الزاي، وكذا في سبأ‏.‏ والمثقال اسم لا صفة، ومعناه هنا وزن ذرة‏.‏ والذر صغار النمل، ولما كانت الذرة أصغر الحيوان المتناسل المشهور النوع عندنا جعلها الله مثالاً لأقل الأشياء وأحقرها، إذ هي أحقر ما نشاهد‏.‏ ثم قال‏:‏ ولا أصغر من ذلك أي‏:‏ من مثقال ذرة‏.‏ ولما ذكر تعالى أنه لا يغيب عن علمه أدق الأشياء التي نشاهدها، ناسب تقديم ولا أصغر من ذلك، ثم أتى بقوله‏:‏ ولا أكبر، على سبيل إحاطة علمه بجميع الأشياء‏.‏

ومعلوم أنّ من علم أدق الأشياء وأخفاها كان علمه متعلقاً بأكبر الأشياء وأظهرها‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بفتح الراء فيهما، ووجه على أنه عطف على ذرة أو على مثقال على اللفظ‏.‏ وقرأ حمزة وحده‏:‏ برفع الراء فيهما، ووجه على أنه عطف على موضع مثقال لأن من زائدة فهو مرفوع بيعزب، هكذا وجهه الحوفي وابن عطية وأبو البقاء‏.‏ وقال الزمخشري تابعاً لاختيار الزجاج‏:‏ والوجه النصب على نفي الجنس، والرفع على الابتداء، يكون كلاماً مبتدأ‏.‏ وفي العطف عل محل مثقال ذرة أو لفظه فتحاً في موضع الجر أشكال، لأنّ قولك‏:‏ لا يعزب عنه شيء إلا في كتاب مشكل انتهى‏.‏ وإنما أشكل عنده، لأنّ التقدير يصير إلا في كتاب فيعزب، وهذا كلام لا يصح‏.‏ وخرجه أبو البقاء على أنه استثناء منقطع تقديره‏:‏ لكن هو في كتاب مبين، ويزول بهذا التقدير الإشكال‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ أجاب بعض المحققين من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنّ الاستثناء منقطع، والآخر أنّ العزوب عبارة عن مطلق البعد، والمخلوقات قسم أوجده الله ابتداء من غير واسطة كالملائكة والسموات والأرض، وقسم أوجده بواسطة القسم الأول مثل الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد، وهذا قد يتباعد في سلسلة العلية والمملوكية عن مرتبة وجود واجب الوجود، فالمعنى‏:‏ لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين، كتبه الله، وأثبت صور تلك المعلومات فيها انتهى، وفيه بعض تلخيص‏.‏ وقال الجرجاني صاحب النظم‏:‏ إلا بمعنى الواو أي‏:‏ وهو في كتاب مبين‏.‏ والعرب تضع إلاّ موضع واو النسق كقوله‏:‏ ‏{‏إلا من ظلم‏}‏ ‏{‏إلا الذين ظلموا منهم‏}‏ انتهى‏.‏ وهذا قول ضعيف لم يثبت من لسان العرب وضع إلا موضع الواو، وتقدم الكلام على قوله‏:‏ ‏{‏إلا الذين ظلموا منهم‏}‏ وسيأتي على قوله‏:‏ إلا من ظلم إن شاء الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏64‏)‏‏}‏

أولياء الله هم الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة‏.‏ وقد فسر ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا وكانوا يتقون‏}‏ وعن سعيد بن جبير‏:‏ ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أولياء الله فقال‏:‏ «هم الذين يذكرون الله برؤيتهم» يعني السمت والهيئة ‏"‏ وعن ابن عباس‏:‏ الإخبات والسكينة‏.‏ وقيل‏:‏ هم المتحابون في الله‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذه الآية يعطي ظاهرها أن من آمن واتقى فهو داخل في أولياء الله، وهذا هو الذي تقتضيه الشريعة في الولي، وإنما نبهنا هذا التنبيه حذراً من مذهب الصوفية وبعض الملحدين في الولي انتهى‏.‏ وإنما قال‏:‏ حذرا من مذهب الصوفية، لأن بعضهم نقل عنه أنّ الولي أفضل من النبي، وهذا لا يكاد يخطر في قلب مسلم‏.‏ ولابن العربي الطائي كلام في الولي وفي غيره نعوذ بالله منه‏.‏ وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إنّ من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله» قالوا‏:‏ يا رسول الله ومن هم‏؟‏ قال‏:‏ «قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام ولا أموال يتعاطونها، فوالله إنّ وجوههم لتنور، وإنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ‏:‏ ألا إن أولياء الله ‏"‏ الآية وتقدم تفسير لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏.‏ والذين يحتمل أن يكون منصوباً على الصفة قاله الزمخشري، أو على البدل قاله ابن عطية، أو بإضمار أمدح، ومرفوعاً على إضمارهم، أو على الابتداء، والخبر لهم البشرى‏.‏ وأجاز الكوفيون رفعه على موضع أولياء نعتاً، أو بدلاً، وأجيز فيه الخبر بدلاً من ضمير عليهم‏.‏ وفي قوله‏:‏ وكانوا يتقون، إشعار بمصاحبتهم للتقوى مدة حياتهم، فحالهم في المستقبل كحالهم في الماضي‏.‏ وبشراهم في الحياة الدنيا تظاهرت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أنها الرؤيا الصالحة يراها المؤمن ‏"‏ أو «ترى له» فسرها بذلك وقد سئل‏.‏ وعنه في صحيح مسلم‏:‏ ‏"‏ لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة ‏"‏ وقال قتادة والضحاك‏:‏ هي ما يبشر به المؤمن عند موته وهو حي عند المعاينة‏.‏ وقيل‏:‏ هي محبة الناس له، والذكر الحسن‏.‏ وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس‏:‏ فقال‏:‏ ‏"‏ تلك عاجل بشرى المؤمن ‏"‏ وعن عطاء‏:‏ لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏تتنزل عليهم الملائكة‏}‏ الآية قال ابن عطية‏:‏ ويصح أن تكون بشرى الدنيا في القرآن من الآيات المبشرات، ويقوي ذلك قوله في هذه الآية‏:‏ لا تبديل لكلمات الله، وإن كان ذلك كله يعارضه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«هي الرؤيا» إلا إن قلنا‏:‏ إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أعطى مثالاً من البشرى وهي تعم جميع البشر‏.‏ وبشراهم في الآخرة تلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالنور والكرامة، وما يرون من بياض وجوههم، وإعطاء الصحف بأيمانهم، وما يقرأون منها، وغير ذلك من البشارات‏.‏ لا تبديل لكلمات الله، لا تغيير لأقواله، ولا خلف في مواعيده كقوله‏:‏ ‏{‏ما بيدّل القول لديّ‏}‏ والظاهر أنّ ذلك إشارة إلى التبشير والبشرى في معناه‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وذلك إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ إشارة إلى النعيم الذي وقعت به البشرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏65‏)‏ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

إما أن يكون قولهم أريد به بعض أفراده وهو التكذيب والتهديد وما يتشاورون به في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون من إطلاق العام وأريد به الخاص‏.‏ وإما أن يكون مما حذفت منه الصفة المخصصة أي‏:‏ قولهم الدال على تكذيبك ومعاندتك، ثم استأنف بقوله‏:‏ إنّ العزة لله جميعاً أي‏:‏ لا عزة لهم ولا منعة، فهم لا يقدرون لك على شيء ولا يؤذونك، إن الغلبة والقهر لله، وهو القادر على الانتقام منهم، فلا يعازه شيء ولا يغالبه‏.‏ وكأنّ قائلاً قال‏:‏ لم لا يحزنه قولهم وهو مما يحزن‏؟‏ فقيل‏:‏ إنّ العزة لله جميعاً، ليس لهم منها شيء‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏:‏ أنّ العزة بفتح الهمزة وليس معمولاً لقولهم‏:‏ لأن ذلك لا يحزن الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ هو قول حق‏.‏ وخرجت هذه القراءة على التعليل أي‏:‏ لا يقع منك حزن لما يقولون، لأجل أنّ العزة لله جميعاً‏.‏ ووجهت أيضاً على أن يكون إنّ العزة بدل من قولهم ولا يظهر هذا التوجيه‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ ومن جعله بدلاً من قولهم ثم أنكره، فالمنكر هو تخريجه لا ما أنكره من القرآن‏.‏ وقال القاضي‏:‏ فتحها شاذ يقارب الكفر، وإذا كسرت كان استئنافاً، وهذا يدل على فضيلة علم الإعراب‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ لا يجوز فتح إن في هذا الموضع وهو كفر وغلو، وإنما قال القاضي وابن قتيبة بناء منهما على أن معمولة لقولهم، وقد ذكرنا توجيه ذلك على التعليل وهو توجيه صحيح‏.‏ هو السميع لما يقولون، العليم لما يريدون‏.‏

وفي هذه الآية تأمين للرسول صلى الله عليه وسلم من اضرار الكفار، وأن الله تعالى يديله عليهم وينصره‏.‏ ‏{‏كتب الله لأغلبن أنا ورسلي‏}‏ ‏{‏إنا لننصر رسلنا‏}‏ وقال الأصم‏:‏ كانوا يتعززون بكثرة خدمهم وأموالهم، فأخبر أنه قادر على أن يسلب منهم ملك الأشياء، وأن ينصرك وينقل إليك أموالهم وديارهم انتهى‏.‏ ولا تضاد بين قوله‏:‏ إن العزة لله جميعاً، وقوله‏:‏ ‏{‏ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين‏}‏ لأن عزتهم إنما هي بالله، فهي كلها لله‏.‏ ‏{‏ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون‏}‏‏.‏

المناسبة ظاهرة في هذه الآية لما ذكرأن العزة له تعالى وهي القهر والغلبة، ذكر ما يناسب القهر وهو كون المخلوقات ملكاً له تعالى، ومن الأصل فيها أن تكون للعقلاء، وهنا هي شاملة لهم ولغيرهم على حكم التغليب، وحيث جيء بما كان تغليباً للكثرة إذ أكثر المخلوقات لا تعقل‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ يعني العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان، وإنما خصهم ليؤذن أنّ هؤلاء إذا كانوا له في ملكه فهم عبيد كلهم، لا يصلح أحد منهم للربوبية، ولا أن يكون شريكاً فيها، فما دونهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون نداً وشريكاً‏.‏

ويدل على أنّ من اتخذ غيره رباً من ملك أو إنسي فضلا عن صنم أو غير ذلك، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد وترك النظر‏.‏ والظاهر أنّ ما نافية، وشركاء مفعول يتبع، ومفعول يدعون محذوف لفهم المعنى تقديره‏:‏ آلهة أو شركاء أي‏:‏ أنّ الذين جعلوهم آلهة وأشركوهم مع الله في الربوبية ليسوا شركاء حقيقة، إذ الشركة في الألوهية مستحيلة، وإن كانوا قد أطلقوا عليهم اسم الشركاء‏.‏ وجوزوا أن تكون ما استفهامية في موضع نصب بيتبع، وشركاء منصوب بيدعون أي‏:‏ وأي شيء يتبع على تحقير المتبع، كأنه قيل‏:‏ من يدعو شريكاً لله لا يتبع شيئاً‏.‏ وأجاز الزمخشري أن تكون ما موصولة عطفاً على من، والعائد محذوف أي‏:‏ والذي يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي‏:‏ وله شركاؤهم‏.‏ وأجاز غيره أن تكون ما موصولة في موضع رفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره‏:‏ والذي يتبعه المشركون باطل‏.‏ وقرأ السلمي‏:‏ تدعون بالتاء على الخطاب‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهي قراءة غير متجهة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه تدعون بالتاء، ووجهه أن يحمل وما يتبع على الاستفهام أي‏:‏ وأي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين، يعني‏:‏ أنهم يبتعون الله تعالى ويطيعونه، فما لكم لا تفعلون فعلهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة‏}‏ انتهى‏.‏ وأنّ نافية أي‏:‏ ما يتبعون إلا ظنهم أنهم شركاء‏.‏ ويخرصون‏:‏ يقدرون‏.‏ ومن قرأ تدعون بالتاء كان قوله‏:‏ إن يتبعون التفاتاً، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

هذا تنبيه منه تعالى على عظيم قدرته وشمول نعمته لعباده، فهو المستحق لأنْ يفرد بالعبادة لتسكنوا فيه مما تقاسون من الحركة والتردّد في طلب المعاش وغيره بالنهار، وأضاف الإبصار إلى النهار مجازاً، لأن الأبصار تقع فيه كما قال‏:‏

ونمت وما ليل المطيّ بنائم *** أي‏:‏ يبصرون فيه مطالب معايشهم‏.‏ وقال قطرب‏:‏ يقال أظلم الليل صار ذا ظلمة، وأضاء النهار وأبصر أي صار ذا ضياء وبصر انتهى‏.‏ وذكر علة خلق الليل وهي قوله‏:‏ لتسكنوا فيه، وحذفها من النهار، وذكر وصف النهار وحذفه من الليل، وكل من المحذوف يدل على مقابله، والتقدير‏:‏ جعل الليل مظلماً لتسكنوا فيه، والنهار مبصراً لتتحركوا فيه في مكاسبكم وما تحتاجون إليه بالحركة، ومعنى تسمعون‏:‏ سماع معتبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 70‏]‏

‏{‏قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

الضمير في قالوا عائد على من نسب إلى الله الولد، ممن قال الملائكة بنات الله، أو عزير ابن الله، أو المسيح ابن الله، وسبحانه‏:‏ تنزيه من اتخاذ الولد وتعجب ممن يقول ذلك، هو الغني علة لنفي الولد، لأنّ اتخاذ الولد إنما يكون للحاجة إليه، والله تعالى غير محتاج إلى شيء، فالولد منتف عنه، وكل ما في السموات والأرض ملكه فهو غني عن اتخاذ الولد‏.‏ وأنْ نافية، والسلطان الحجة أي‏:‏ ما عندكم من حجة بهذا القول‏.‏ قال الحوفي‏:‏ وبهذا متعلق بمعنى الاستقرار يعني‏:‏ الذي تعلق به الظرف‏.‏ وتبعه الزمخشري فقال‏:‏ الباء حقها أن تتعلق بقوله‏:‏ إن عندكم على أن يجعل القول مكاناً للسلطان كقولك‏:‏ ما عندكم بأرضكم نور، كأنه قيل‏:‏ إنّ عندكم فيما تقولون سلطان‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ وبهذا متعلق بسلطان أو نعت له، وأتقولون استفهام إنكار وتوبيخ لمن اتبع ما لا يعلم، ويحتج بذلك في إبطال التقليد في أصول الدين، واستدل بها نفاة القياس وإخبار الآحاد‏.‏ ولما نفى البرهان عنهم جعلهم غير عالمين، فدل على أن كل قول لا برهان عليه لقائله فذلك جهل وليس بعلم‏.‏ والذين يفترون على الله الكذب عام يشمل من نسب إلى الله الولد، ومن قال في الله وفي صفاته قولاً بغير علم وهو داخل في الوعيد بانتفاء الإفلاح، ولما نفى عنهم الفلاح وكان لهم حظ من إفلاحهم في الدنيا لحظوظ فيها من مال وجاه وغير ذلك قيل‏:‏ متاع قليل جواب على تقدير سؤال، أن قائلاً قال‏:‏ كيف لا يفلحون وهم في الدنيا مفلحون بأنواع مما يتلذذون به، فقيل‏:‏ ذلك متاع في الدنيا، أو لهم متاع في الدنيا زائل لا بقاء له، ثم يلقون الشقاء المؤبد في الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏71‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى الدلائل على وحدانيته، وذكر ما جرى بين الرسول وبين الكفار، ذكر قصصاً من قصص الأنبياء وما جرى هم مع قومهم من الخلاف وذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وليتأسى بمن قبله من الأنبياء فيخف عليه ما يلقى منهم من التكذيب وقلة الاتباع، وليعلم المتلوّ عليهم هذا القصص عاقبة من كذب الأنبياء، وما منح الله نبيه من العلم بهذا القصص وهو لم يطالع كتاباً ولا صحب عالماً، وأنها طبق ما أخبر به‏.‏ فدل ذلك على أن الله أوحاه إليه وأعلمه به، وأنه نبي لا شك فيه‏.‏ والضمير في عليهم عائد على أهل مكة الذين تقدم ذكرهم‏.‏ وكبر معناه عظم مقامي أي‏:‏ طول مقامي فيكم، أو قيامي للوعظ‏.‏ كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائماً ليروه وهم قعود، وكقيام الخطيب ليسمع الناس وليروه، أو نسب ذلك إلى مقامه والمراد نفسه كما تقول‏:‏ فعلت كذا لمكان فلان، وفلان ثقيل الظل تريد لأجل فلان وفلان ثقيل‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ولم يقرأ هنا بضم الميم انتهى‏.‏ وليس كما ذكر، بل قرأ مقامي بضم الميم أبو مجلز وأبو رجاء وأبو الجوزاء‏.‏ والمقام الإقامة بالمكان، والمقام مكان القيام‏.‏ والتذكير وعظه إياهم وزجرهم عن المعاصي، وجواب الشرط محذوف تقديره‏:‏ فافعلوا ما شئتم‏.‏ وقيل‏:‏ الجواب فعلى الله توكلت‏.‏ وفأجمعوا معطوف على الجواب، وهو لا يظهر لأنه متوكل على الله دائماً‏.‏ وقال الأكثرون‏:‏ الجواب فأجمعوا، وفعلى الله توكلت جملة اعتراض بين الشرط وجزائه كقوله‏:‏

أما تريني قد نحلت ومن يكن *** غرضاً لأطراف الأسنة ينحل

فلرب أبلج مثل ثقلك بادن *** ضخم على ظهر الجواد مهبل

وقرأ الجمهور‏:‏ فأجمعوا من أجمع الرجل الشيء عزم عليه ونواه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أجمعوا أمرهم بليل فلما *** أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

وقال آخر‏:‏

يا ليت شعري والمنى لا تنفع *** هل أعذرت يوماً وأمري مجمع

وقال أبو قيد السدوسي‏:‏ أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه‏.‏ وقال أبو الهيثم‏:‏ أجمع أمره جعله مجموعاً بعدما كان متفرقاً، قال‏:‏ وتفرقته أنه يقول مرة أفعل كذا، ومرة أفعل كذا، فإذا عزم على أمر واحد قد جعله أي‏:‏ جعله جميعاً، فهذا هو الأصل في الإجماع، ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى، فقيل‏:‏ أجمعت على الأمر أي عزمت عليه، والأصل أجمعت الأمر انتهى‏.‏ وعلى هذا القراءة يكون وشركاءكم عطفاً على أمركم على حذف مضاف أي‏:‏ ك وأمر شركائكم، أو على أمركم من غير مراعاة محذوف‏.‏ لأنه يقال أيضاً‏:‏ أجمعت شركائي، أو منصوباً بإضمار فعل أي‏:‏ وادعوا شركاءكم، وذلك بناء على أنه لا يقال أجمعت شركائي يعني في الأكثر، فيكون نظير قوله‏:‏

فعلفتها تبناً وماء بارداً *** حتى شتت همالة عيناها

في أحد المذهبين أي‏:‏ وسقيتها ماء بارداً، وكذا هي في مصحف أبي‏.‏ وادعوا شركاءكم، وقال أبو علي‏:‏ وقد تنصب الشركاء بواو مع كما قالوا‏:‏ جاء البرد والطيالسة‏.‏ ولم يذكر الزمخشري في نصب، وشركاءكم غير قول أبي على أنه منصوب بواو مع، وينبغي أن يكون هذا التخريج على أنه مفعول معه من الفاعل وهو الضمير في اجمعوا لا من المفعول الذي هو أمركم، وذلك على أشهر الاستعمالين‏.‏ لأنه يقال‏:‏ أجمع الشركاء، ولا يقال جمع الشركاء أمرهم إلا قليلاً، ولا أجمعت الشركاء إلا قليلاً‏.‏ وفي اشتراط صحة جواز العطف فيما يكون مفعولاً معه خلاف، فإذا جعلناه من الفاعل كان أولى‏.‏ وقرأ الزهري، والأعمش، والجحدري، وأبو رجاء، والأعرج، والأصمعي عن نافع، ويعقوب‏:‏ بخلاف عنه فاجمعوا بوصل الألف وفتح الميم من جمع، وشركاءكم عطف على أمركم لأنه يقال‏:‏ شركائي، أو على أنه مفعول معه، أو على حذف مضاف أي‏:‏ ذوي الأمر منكم، فجرى على المضاف إليه ما جرى على المضاف، لو ثبت قاله أبو علي‏.‏ وفي كتاب اللوامح‏:‏ أجمعت الأمر أي جعلته جميعاً، وجمعت الأموال جميعاً، فكان الإجماع في الاحداث والجمع في الاعيان، وقد يستعمل كل واحد مكان الآخر‏.‏ وفي التنزيل‏:‏ ‏{‏فجمع كيده‏}‏ انتهى‏.‏

وقرأ أبو عبد الرحمن، والحسن، وابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وسلام، ويعقوب فيما روي عنه‏:‏ وشركاؤكم بالرفع، ووجه بأنه عطف على الضمير في فأجمعوا، وقد وقع الفصل بالمفعول فحسن، وعلى أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه أي‏:‏ وشركاؤكم فليجمعوا أمرهم‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ وشركائكم بالخفض عطفاً على الضمير في أمركم أي‏:‏ وأمر شركائكم فحذف كقول الآخر‏:‏

أكل امرئ تحسبين امرءاً *** وتار توقد بالليل ناراً

أي وكل نار، فحذف كل لدلالة ما قبله عليه‏.‏ والمراد بالشركاء الأنداد من دون الله، أضافهم إليهم إذ هم يجعلونهم شركاء بزعمهم، وأسند الإجماع إلى الشركاء على وجه التهكم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل ادعو شركاءكم ثم كيدون‏}‏ أو يراد بالشركاء من كان على دينهم وطريقتهم‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ المراد من الأمر هنا وجود كيدهم ومكرهم، فالتقدير‏:‏ لا تتركوا من أمركم شيئاً إلا أحضرتموه انتهى‏.‏ وأمره إياهم بإجماع أمرهم دليل على عدم مبالاته بهم ثقة بما وعده ربه من كلاءته وعصمته، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة أي حالكم معي وصحبتكم لي غماً، وهماً أي‏:‏ ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة، وحالكم عليكم غمة‏.‏ والغم والغمة كالكرب والكربة، قال أبو الهيثم‏:‏ هو من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم إذا التمس فلم ير‏.‏ وقال طرفة‏:‏

لعمرك ما أمري عليّ بغمة *** نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد

وقال الليث‏:‏ يقال‏:‏ إنه لفي غمة من أمره إذا لم يتبين له‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ أمركم ظاهراً مكشوفاً، وحسنه الزمخشري فقال‏:‏ وقد ذكر القول الأول الذي يراد بالأمر فقال‏:‏ والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأول‏.‏ والغمة السترة، من غمه إذا ستره‏.‏ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ولا غمة في فرائض الله تعالى» أي لا تستر ولكن يجاهر بها، يعني‏:‏ ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستوراً عليكم، بل مكشوفاً مشهوراً تجاهرون به انتهى‏.‏ ومعنى اقضوا‏:‏ إلي أنفذوا قضاءكم نحوي، ومفعول اقضوا محذوف أي‏:‏ اقضوا إليّ ذلك الأمر وامضوا في أنفسكم، واقطعوا ما بيني وبينكم‏.‏ وقرأ السري بن ينعم‏:‏ ثم أفضوا بالفاء وقطع الألف، أي‏:‏ انتهوا إليّ بشركم من أفضى بكذا انتهى إليه‏.‏ وقيل‏:‏ معناه أسرعوا‏.‏ وقيل‏:‏ من أفضى إذا خرج إلى الفضاء أي‏:‏ فاصحروا به إليّ وأبرزوه‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

أبى الضيم والنعمان تحرق نابه *** عليه فأفضى والسيوف معاقله

ولا تنظرون‏:‏ أي لا تؤخرون، والنظرة التأخير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 73‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏72‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

أي‏:‏ فإن دام توليكم عما جئت به إليكم من توحيد الله ورفض آلهتكم فلست أبالي بكم، لأنّ توليكم لا يضرني في خاصتي، ولا قطع عني صلة منكم، إذ ما دعوتكم إليه وذكرتكم به ووعظتكم، لم أسألكم عليه أجراً، إنما يثيبني عليه الله تعالى أي‏:‏ ما نصحتكم إلا لوجه الله تعالى لا لغرض من أغراض الدنيا‏.‏ ثم أخبر أنه أمره أن يكون من المسلمين من المنقادين لأمر الله الطائعين له، فكذبوه، فتموا على تكذيبه، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان‏.‏ وفي الفلك متعلق بالاستقرار الذي تعلق به معه، أو بفنجيناه‏.‏ وجعلناهم جمع ضمير المفعول على معنى من، وخلائف يخلفون الفارقين المهلكين‏.‏ ثم أمر بالنظر في عاقبة المنذرين بالعذاب، وإلى ما صار إليه حالهم‏.‏ وفي هذا الإخبار توعد للكفار بمحمد صلى الله عليه وسلم، وضرب مثال لهم في أنهم بحال هؤلاء من التكذيب فسيكون حالهم كحالهم في التعذيب‏.‏ والخطاب في فانظر للسامع لهذه القصة، وفي ذلك تعظيم لما جرى عليهم، وتحذير لمن أنذرهم الرسول، وتسلية له صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

من بعده أي‏:‏ من بعد نوح رسلاً إلى قومهم، يعني هوداً وصالحاً ولوطاً وإبراهيم وشعيباً‏.‏ والبينات‏:‏ المعجزات، والبراهين الواضحة المثبتة لما جاءوا به‏.‏ وجاء النفي مصحوباً بلام الجحود ليدل على أنّ إيمانهم في حيز الاستحالة والامتناع، والضمير في كذبوا عائد على من عاد عليه ضمير كانوا وهم قوم الرسل‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية وتكذيب للحق، فتساوت حالتهم قبل البعثة وبعدها، كأن لم يبعث إليهم أحد‏.‏ ومن قبل متعلق بكذبوا أي‏:‏ من قبل بعثة الرسل‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أنهم بادروا رسلهم بالتكذيب كلما جاء رسول، ثم لحوا في الكفر وتمادوا، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لجهم في الكفر وتماديهم‏.‏ وقال يحيى بن سلام‏:‏ من قبل معناه من قبل العذاب، وهذا القول فيه بعد‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في كذبوا عائد على قوم نوح أي‏:‏ فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح، يعني‏:‏ أن شنشنتهم واحدة في التكذيب‏.‏ قال ابن عطية، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو‏:‏ أن تكون ما مصدرية، والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي‏:‏ من سببه ومن جرائه، ويؤيد هذا التأويل كذلك نطبع انتهى‏.‏ والظاهر أنّ ما موصولة، ولذلك عاد الضمير عليها في قوله‏:‏ بما كذبوا به‏.‏ ولو كانت مصدرية بقي الضمير غير عائد على مذكور، فتحتاج أن يتكلف ما يعود عليه الضمير‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ نطبع بالنون، والعباس بن الفضل بالياء، والكاف للتشبيه أي‏:‏ مثل ذلك الطبع المحكم الذي يمتنع زواله نطبع على قلوب المعتدين المجاوزين طورهم والمبالغين في الكفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 77‏]‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏75‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏76‏)‏ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

أي‏:‏ من بعد أولئك الرسل بآياتنا وهي المعجزات التي ظهرت على يديه، ولا يخص قوله‏:‏ وملائه بالإشراف، بل هي عامّة لقوم فرعون شريفهم ومشروفهم‏.‏ فاستكبروا تعاظموا عن قبولها، وأعظم الكبر أن يتعاظم العبيد عن قبول رسالة ربهم بعد تبينها واستيضاحها، وباجترامهم الآثام العظيمة استكبروا واجترؤوا على ردّها‏.‏ والحق هو العصا واليد قالوا لحبهم الشهوات‏:‏ إن هذا لسحر مبين، وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلا تمويهاً وباطلاً، ولم يقولوا إنّ هذا لسحر مبين إلا عند معاينة العصا وانقلابها، واليد وخروجها بيضاء، ولم يتعاطوا إلا مقاومة العصا وهي معجزة موسى الذي وقع فيها عجز المعارض‏.‏ وقرأ مجاهد، وابن جبير، والأعمش‏:‏ لساحر مبين، جعل خبر إنّ اسم فاعل لا مصدراً كقراءة الجماعة‏.‏ ولما كابروا موسى فيما جاء به من الحق أخبروا على جهة الجزم بأنّ ما جاء به سحر مبين فقال لهم موسى‏:‏ أتقولون‏؟‏ مستفهماً على جهة الإنكار والتوبيخ، حيث جعلوا الحق سحراً، أسحر هذا أي‏:‏ مثل هذا الحق لا يدعى أنه سحر‏.‏ وأخبر أنه لا يفلح من كان ساحراً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يفلح الساحر حيث أتى‏}‏ والظاهر أن معمول أتقولون محذوف تقديره‏:‏ ما تقدم ذكره وهو إنّ هذا لسحر، ويجوز أن يحذف معمول القول للدلالة عليه نحو قول الشاعر‏:‏

لنحن الألى قلتم فإني ملتئم *** برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا

ومسألة الكتاب متى رأيت، أو قلت زيداً منطلقاً‏.‏ وقيل‏:‏ معمول أتقولون هو أسحر هذا إلى آخره، كأنهم قالوا‏:‏ أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح، ولا يفلح الساحرون‏.‏ كما قال موسى للسحرة‏:‏ ما جئتم به السحر إن الله سيبطله‏.‏ والذين قالوا‏:‏ بأن الجملة وأن الاستفهام هي محكية لقول اختلفوا فقال بعضهم‏:‏ قالوا ذلك على سبيل التعظيم للسحر الذي رأوه بزعمهم، كما تقول لفرس تراه يجيد الجري‏:‏ أفرس هذا على سبيل التعجيب والاستغراب، وأنت قد علمت أنه فرس، فهو استفهام معناه التعجيب والتعظيم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ قال ذلك منهم كل جاهل بالأمر، فهو يسأل أهو سحر‏؟‏ لقول بعضهم‏:‏ إن هذا لسحر، وأجاز الزمخشري أن يكون معنى قوله‏:‏ أتقولون للحق، أتعيبونه وتطعنون فيه، فكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه، قال‏:‏ من قولهم فلان يخاف القالة، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوء، ونحو القول الذكر في قوله‏:‏ سمعنا فتى يذكرهم ثم قال أسحر هذا فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 82‏]‏

‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏78‏)‏ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏79‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ‏(‏80‏)‏ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏81‏)‏ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

لفت عنقه لوها وصرفها‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ لفت الشيء وقتله لواه، وهذا من المقلوب انتهى‏.‏ ومطاوع لفت التفت، وقيل‏:‏ انفتل‏.‏

‏{‏قالوا‏:‏ أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين‏.‏ وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم‏.‏ فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون‏.‏ فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين‏.‏ ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون‏}‏ أجئتنا خطاب لموسى وحده، لأنه هو الذي ظهرت على يديه معجزة العصا واليد‏.‏ لتصرفنا وتلوينا عن ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة غير الله، واتخاذ إله دونه‏.‏ والكبرياء مصدر‏.‏ قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وأكثر المتأولين‏:‏ المراد به هنا الملك، إذ الملوك موصوفون بالكبر، ولذلك قيل للملك الجبار، ووصف بالصد والشرس‏.‏ وقال ابن الرقيات في مصعب بن الزبير‏:‏

ملكه ملك رأفة ليس فيه *** جبروت منه ولا كبرياء

يعني ما عليه الملوك من ذلك‏.‏ وقال ابن الرقاع‏:‏

سؤدد غير فاحش لا يداني *** ه تحبارة ولا كبرياء

وقال الأعمش‏:‏ الكبرياء العظمة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ العلو‏.‏ وقال الضحاك أيضاً‏:‏ الطاعة، والأرض هنا أرض مصر‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وإسماعيل، والحسن فيما زعم خارجة، وأبو عمرو، وعاصم‏:‏ بخلاف عنهما، وتكون بالتاء لمجاز تأنيث الكبرياء، والجمهور بالياء لمراعاة اللفظ، والمعنى‏:‏ أنهم قالوا مقصودك في ذكره إلينا بما جئت، هو أنْ ننتقل من دين آبائنا إلى ما تأمر به ونطيعك، ويكون لكما العلو والملك علينا بطاعتنا لك، فنصير أتباعاً لك تاركين دين آبائنا، وهذا مقصود لا نراه، فلا نصدقك فيما جئت به إذ غرضك إنما هو موافقتك على ما أنت عليه، واستعلاؤك علينا‏.‏ فالسبب الأول هو التقليد، والثاني الجد في الرئاسة حتى لا تكونوا تبعاً‏.‏ واقتضى هذان السببان اللذان توهموهما مقصوداً التصريح بانتفاء الإيمان الذي هو سبب لحصول السببين‏.‏ ويجوز أن يقصدوا الذم بأنهما إنْ ملكا أرض مصر تكبرا وتجبرا كما قال القبطي‏:‏ إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض‏.‏ ولما ادعوا أنّ ما جاء به موسى هو سحر، أخذوا في معارضته بأنواع من السحر، ليظهر لسائر الناس أنّ ما أتى به موسى من باب السحر‏.‏ والمخاطب بقوله‏:‏ ائتوني، خدمة فرعون والمتصرفون بين يديه‏.‏ وقرأ ابن مصرف، وابن وثاب، وعيسى، وحمزة، والكسائي‏:‏ بكل سحار على المبالغة‏.‏ وفي قوله‏:‏ ألقوا ما أنتم ملقون، استطالة عليهم وعدم مبالاة بهم‏.‏ وفي إيهام ما أنتم ملقون، تخسيس له وتقليل، وإعلام أنه لا شيء يلتفت إليه‏.‏ قال أبو عبد الله الرازي‏:‏ كيف أمرهم، فالكفر والسحر والأمر بالكفر كفر‏؟‏ قلنا‏:‏ إنه عليه الصلاة والسلام أمرهم بإلقاء الحبال والعصى ليظهر للخلق أن ما ألقوا عمل فاسد وسعى باطل، لا على طريق أنه عليه السلام أمرهم بالسحر انتهى‏.‏

وقرأ أبو عمرو، ومجاهد وأصحابه، وابن القعقاع‏:‏ بهمزة الاستفهام في قوله‏:‏ آلسحر ممدودة، وباقي السبعة والجمهور بهمزة الوصل، فعلى الاستفهام قالوا‏:‏ يجوز أن تكون ما استفهامية مبتدأ، والسحر بدل منها‏.‏ وأن تكون منصوبة بمضمر تفسيره جئتم به، والسحر خبر مبتدأ محذوف‏.‏ ويجوز عندي في هذا الوجه أن تكون ما موصولة مبتدأة، وجملة الاستفهام خبر، إذ التقدير‏:‏ أهو السحر، أو آلسحر هو، فهو الرباط كما تقول‏:‏ الذي جاءك أزيد هو‏؟‏ وعلى همزة الوصل جاز أن نكون ما موصولة مبتدأة، والخبر السحر، ويدل عليه قراءة عبد الله والأعمش‏:‏ سحر‏.‏ وقراءة أبيّ ما أتيتم به سحر‏.‏ ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهامية في موضع رفع بالابتداء، أو في موضع نصب على الاشتغال، وهو استفهام على سبيل التحقير والتعليل لما جاءوا به، والسحر خير مبتدأ محذوف أي‏:‏ هو السحر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والتعريف هنا في السحر ارتب، لأنه قد تقدم منكراً في قولهم‏:‏ إن هذا لسحر، فجاء هنا بلام العهد كما يقال‏:‏ أول الرسالة سلام عليك، وفي آخرها والسلام عليك انتهى‏.‏ وهذا أخذه من الفراء‏.‏ قال الفراء‏:‏ وإنما قال السحر بالألف واللام، لأن النكرة إذا أعيدت أعيدت بالألف واللام، ولو قال له من رجل لم يقع في وهمه أنه يسأله عن الرجل الذي ذكر له انتهى‏.‏ وما ذكره هنا في السحر ليس هو من باب تقدم النكرة، ثم أخبر عنها بعد ذلك، لأن شرط هذا أن يكون المعرّف بالألف واللام هو النكرة المتقدم، ولا يكون غيره كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول‏}‏ وتقول‏:‏ زارني رجل فأكرمت الرجل، ولما كان إياه جاز أن يأتي بالضمير بدله فتقول‏:‏ فأكرمته‏.‏ والسحر هنا ليس هو السحر الذي هو في قولهم‏:‏ إن هذا لسحر، لأن الذي أخبروا عنه بأنه سحر هو ما ظهر على يدي موسى عليه السلام من معجزة العصا، والسحر الذي في قول موسى إنما هو سحرهم الذي جاؤوا به، فقد اختلف المدلولان وقالوا هم عن معجزة موسى وقال موسى عما جاؤوا به، ولذلك لا يجوز أن يأتي هنا بالضمير بدل السحر، فيكون عائداً على قولهم السحر‏.‏ والظاهر أنّ الجمل بعده من كلام موسى عليه السلام‏.‏ وسيبطله يمحقه، بحيث يذهب أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة‏.‏ وقيل‏:‏ هذه الجمل من كلام الله تعالى‏.‏ ومعنى بكلماته، بقضاياه السابقة في وعده‏.‏ وقال ابن سلام‏:‏ بكلماته بقوله‏:‏ ‏{‏لا تخف إنك انت الأعلى‏}‏ وقيل بكلماته بحججه وبراهينه وقرئ بكلمته على التوحيد أي بأمره ومشيئته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 86‏]‏

‏{‏فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏83‏)‏ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ‏(‏84‏)‏ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏85‏)‏ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

الظاهر في الفاء من حيث أنّ مدلولها التعقيب أن هذا الإيمان الصادر من الذرية لم يتأخر عن قصة الإلقاء‏.‏ والظاهر أن الضمير في قومه عائد على موسى، وأنه لا يعود على فرعون، لأنّ موسى هو المحدث عنه في هذه الآية، وهو أقرب مذكور‏.‏ ولأنه لو كان عائداً على فرعون لم يظهر لفظ فرعون، وكان التركيب على خوف منه‏.‏ ومن ملإهم أن يفتنهم، وهذا الإيمان من الذرية كان أول مبعثه إذ قد آمن به بنو إسرائيل قومه كلهم، كان أولاً دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون، واجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف‏.‏ وقال مجاهد والأعمش‏:‏ معنى الآية أنّ قوماً أدركهم موسى ولم يؤمنوا، وإنما آمن ذراريهم بعد هلاكهم لطول الزمن‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول غير صحيح، إذا آمن قوم بعد موت آبائهم، فلا معنى لتخصيصهم باسم الذرية‏.‏ وأيضاً فما روي من أخبار بني إسرائيل لا يعطي هذا، وينفيه قوله‏:‏ فما آمن، لأنه يعطي تقليل المؤمنين به، لأنه نفي الإيمان ثم أوجبه لبعضهم، ولو كان الأكثر مؤمناً لأوجب الإيمان أولاً ثم نفاه عن الأقل، وعلى هذا الوجه يتخرج قول ابن عباس في الذرية‏:‏ إنه القليل، إلا أنه أراد أنّ لفظ الذرية بمعنى القليل كما ظن مكيّ وغيره‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ إنما سماهم ذرية لأنّ أمهاتهم كانت من بني إسرائيل، وإماؤهم من القبط‏.‏ رواه عكرمة عن ابن عباس‏:‏ فكان يقال لهم الذرية كما قيل لفرس اليمن الأبناء، وهم الفرس المنتقلون مع وهوز بسعاية سيف بن ذي يزن‏.‏ وممن ذهب إلى أن الضمير في قومه على موسى‏:‏ ابن عباس قال‏:‏ وكانوا ستمائة ألف، وذلك أن يعقوب عليه السلام دخل مصر في اثنين وسبعين نفساً، فتوالدوا بمصر حتى صاروا ستمائة ألف‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في قومه يعود على فرعون، روي أنه آمنت زوجة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وشباب من قومه‏.‏ قال ابن عباس أيضاً‏:‏ والسحرة أيضاً، فإنهم معدودون في قوم فرعون‏.‏ وقال السدي‏:‏ كانوا سبعين أهل بيت من قوم فرعون‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ومما يضعف عود الضمير على موسى عليه السلام أنّ المعروف من أخبار بني إسرائيل أنهم كانوا قوماً قد فشت فيهم السوآت، وكانوا في مدة فرعون قد نالهم ذل مفرط، وقد رجوا كشفه على يد مولود يخرج فيهم يكون نبياً، فلما جاءهم موسى عليه السلام أصفقوا عليه وبايعوه، ولم يحفظ قط أن طائفة من بني إسرائيل كفرت به، فكيف تعطى هذه الآية أنّ الأقل منهم كان الذي آمن، فالذي يترجح بحسب هذا أنّ الضمير عائد على فرعون‏.‏ ويؤيد ذلك أيضاً ما تقدم من محاورة موسى ورده عليهم، وتوبيخهم على قولهم هذا سحر، فذكر الله ذلك عنهم ثم قال‏:‏ فما آمن لموسى إلا ذرية من قوم فرعون الذي هذه أقوالهم‏.‏

وتكون القصة على هذا التأويل بعد ظهور الآية والتعجيز بالعصا، وتكون الفاء مرتبة للمعاني التي عطفت انتهى‏.‏ ويمكن أن يكون معنى فما آمن أي‏:‏ ما أظهر إيمانه وأعلن به إلا ذرية من قوم موسى، فلا يدل ذلك على أنّ طائفة من بني إسرائيل كفرت به‏.‏ والظاهر عود الضمير في قوله‏:‏ وملاهم، على الذرية وقاله الأخفش، واختاره الطبري أي‏:‏ أخوف بني إسرائيل الذرية وهم أشراف بني إسرائيل إن كان الضمير في قومه عائداً على موسى، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون على أنفسهم‏.‏ ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ أن يفتنهم أي يعذبهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أن يقتلهم‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على قومه أي‏:‏ وملا قوم موسى، أو قوم فرعون‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على المضاف المحذوف تقديره‏:‏ على خوف من آل فرعون، قاله الفراء‏.‏ كما حذف في، ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ورد عليه بأنّ الخوف يمكن من فرعون، ولا يمكن سؤال القرية، فلا يحذف إلا ما دل عليه الدليل‏.‏ وقد يقال‏:‏ ويدل على هذا المحذوف جمع الضمير في وملاهم‏.‏ وقيل‏:‏ ثم معطوف محذوف يدل عليه كون الملك لا يكون وحده، بل له حاشية وأجناد، وكأنه قيل‏:‏ على خوف من فرعون وقومه وملاهم أي‏:‏ ملا فرعون وقومه، وقاله الفراء أيضاً‏:‏ وقيل‏:‏ لما كان ملكاً جباراً أخبر عنه بفعل الجميع‏.‏ وقيل‏:‏ سميت الجماعة بفرعون مثل هود‏.‏ وأن يفتنهم بدل من فرعون بدل اشتمال أي‏:‏ فتنته، فكون في موضع جر، ويجوز أن يكون في موضع نصب بخوف إما على التعليل، وإما على أنه في موضع المفعول به، أي‏:‏ على خوف لأجل فتنته، أو على خوف فتنته‏.‏ وقرأ الحسن وجراح ونبيح‏:‏ يفتنهم بضم الياء من أفتن، ولعال متجر أو باع ظالم، أو متعال أو قاهر كما قال‏:‏

فاعمد لما تعلو فما لك بالذي *** لا تستطيع من الأمور يدان

أي لما تقهر أقوال متقاربة، وإسرافه كونه كثير القتل والتعذيب‏.‏ وقيل‏:‏ كونه من أخس العبيد فادعى الإلهية، وهذا الإخبار مبين سبب خوف أولئك المؤمنين منه‏.‏ وفي الآية مسلاة للرسول صلى الله عليه وسلم بقلة من آمن لموسى ومن استجاب له مع ظهور ذلك المعجز الباهر، ولم يؤمن له إلا ذرية من قومه، وخطاب موسى عليه السلام لمن آمن بقوله‏:‏ يا قوم، دليل على أن المؤمنين الذرية كانوا من قومه، وخاطبهم بذلك حين اشتد خوفهم مما توعدهم به فرعون من قتل الآباء وذبح الذرية‏.‏ وقيل‏:‏ قال لهم ذلك حين قالوا إنا لمدركون‏.‏ وقيل‏:‏ حين قالوا‏:‏ أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، قيل‏:‏ والأول هو الصواب، لأنّ جواب كل من القولين مذكور بعده وهو‏:‏

‏{‏كلا إن معي ربي سيهدين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏عسى ربكم أن يهلك عدوكم‏}‏ الآية وعلق توكلهم على شرطين‏:‏ متقدم، ومتأخر‏.‏ ومتى كان الشرطان لا يترتبان في الوجود فالشرط الثاني شرط في الأول، فمن حيث هو شرط فيه يجب أن يكون متقدماً عليه‏.‏ فالإسلام هو الانقياد للتكاليف الصادرة من الله، وإظهار الخضوع وترك التمرّد، والإيمان عرفان القلب بالله تعالى ووحدانيته وسائر صفاته، وأنّ ما سواه محدث تحت قهره وتدبيره‏.‏ وإذا حصل هذان الشرطان فوض العبد جميع أموره إلى الله تعالى، واعتمد عليه في كل الأحوال‏.‏ وأدخل أنْ على فعلي الشرط وإن كانت في الأغلب إنما تدخل على غير المحقق مع علمه بإيمانهم على وجه إقامة الحجة وتنبيه الأنفس وإثارة الأنفة، كما تقول‏:‏ إن كنت رجلاً فقاتل، تخاطب بذلك رجلاً تريد إقامة البينة‏.‏ وطول ابن عطية هنا في مسألة التوكل بما يوقف عليه في كتابه‏.‏ وأجابوا موسى عليه السلام بما أمرهم به من التوكل على الله لأنهم كانوا مخلصين في إيمانهم وإسلامهم، ثم سألوا الله تعالى شيئين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن لا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أي موضع فتنة لهم، أي عذاب تعذبوننا أو تفتنوننا عن ديننا، أو فتنة لهم يفتنون بها ويقولون‏:‏ لو كان هؤلاء على الحق ما أصيبوا‏.‏ وقال مجاهد وأبو مجلز وأبو الضحى وغيرهم‏:‏ معنى القول الآخر قال‏:‏ المعنى لا ينزل بنا ملأنا بأيديهم أو بغير ذلك مدة محاربتنا لهم فيفتنون ويعتقدون أنْ هلاكنا إنما هو بقصد منك لسوء ديننا وصلاح دينهم وأنهم أهل الحق‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ المعنى لا نفتنهم ونبتليهم بقتلنا وإذايتنا فنعذبهم على ذلك في الآخرة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وفي هذا التأويل قلق‏.‏ وقال ابن الكلبي‏:‏ لا تجعلنا فتنة بتقتير الرزق علينا وبسطه لهم‏.‏ والآخر‏:‏ ينجيهم من الكافرين أي‏:‏ من تسخيرهم واستعبادهم‏.‏ والذي يظهر أنهم سألوا الله تعالى أنْ لا يفتنوا عن دينهم، وأن يخلصوا من الكفار، فقدموا ما كان عندهم أهم وهو سلامة دينهم لهم، وأخروا سلامة أنفسهم، إذ الاهتمام بمصالح الدين آكد من الاهتمام بمصالح الأبدان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

لم يصرح باسم أخيه لأنه قد تقدّم أولاً في قوله‏:‏ ‏{‏ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون‏}‏ وتبوآ اتخذا مباءة أي مرجعاً للعبادة والصلاة كما تقول‏:‏ توطن اتخذ موطناً، والظاهر اتخاذ البيوت بمصر‏.‏ قال الضحاك‏:‏ وهي مصر المحروسة، ومصر من البحر إلى أسوان، والاسكندرية من أرض مصر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هي الاسكندرية، وكان فرعون قد استولى على بني إسرائيل خرب مساجدهم ومواضع عباداتهم، ومنعهم من الصلوات، وكلفهم الأعمال الشاقة‏.‏ وكانوا في أول أمرهم مأمورين بأنْ يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم، فيردوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام‏.‏ وقرأ حفص في رواية هبيرة‏:‏ تبويا بالياء، وهذا تسهيل غير قياسي، ولو جرى على القياس لكان بين الهمزة والألف، والظاهر أنّ المأمور بأنْ يجعل قبلة هي المأمور بتبوئها‏.‏ ومعنى قبلة مساجد‏:‏ أمروا بأن يتخذوا بيوتهم مساجد قاله‏:‏ النخعي، وابن زيد، وروي عن ابن عباس‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً‏:‏ واجعلوا بيوتكم قبل القبلة، وعنه أيضاً‏:‏ قبل مكة‏.‏ وقال مجاهد وقتادة ومقاتل والفراء‏:‏ أمروا بأن يجعلوها مستقبلة الكعبة‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً وابن جبير‏:‏ قبلة يقابل بعضها بعضاً‏.‏ وأقيموا الصلاة وهذا قبل نزول التوراة، لأنها لم تنزل إلا بعد إجارة البحر‏.‏ وبشر المؤمنين يعني‏:‏ بالنصر في الدنيا وبالجنة في الآخرة، وهو أمر لموسى عليه السلام أن يتبوآ لقومهما ويختاراها للعبادة، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء‏.‏ ثم نسق الخطاب عاماً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأن ذلك واجب على الجمهور، ثم خص موسى عليه السلام بالتبشير الذي هو الغرض تعظيماً له وللمبشر به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 89‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏88‏)‏ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

لما بالغ موسى عليه السلام في إظهار المعجزات وهم مصرون على العناد واشتد أذاهم عليه وعلى من آمن معه، وهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفراً، وعلى الإنذار إلا استكباراً‏.‏ أو علم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال، أو علم ذلك بوحي من الله تعالى، دعا الله تعالى عليهم بما علم أنه لا يكون غيره كما تقول‏:‏ لعن الله إبليس وأخزى الكفرة‏.‏ كما دعا نوح على قومه حين أوحى إليه ‏{‏أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏}‏ وقدم بين يدي الدعاء ما آتاهم الله من النعمة في الدنيا وكان ذلك سبباً للإيمان به ولشكر نعمه، فجعوا ذلك سبباً لجحوده ولكفر نعمه‏.‏ والزينة عبارة عما يتزين به ويتحسن من الملبوس والمركوب والأثاث والمال، ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق‏.‏ قال المؤرخون والمفسرون‏:‏ كان لهم فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والياقوت‏.‏ وفي تكرار ربنا توكيد للدعاء والاستغاثة، واللام في ليضلوا الظاهر أنها لام كي على معنى‏:‏ آتيتهم ما آتيتهم على سبيل الاستدراج، فكان الإتيان لكي يضلوا‏.‏ ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة كقوله‏:‏ ‏{‏فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً‏}‏ وكما قال الشاعر‏:‏

وللمنايا تربي كل مرضعة *** وللخراب يجد الناس عمراناً

وقال الحسن‏:‏ هو دعاء عليهم، وبهذا بدأ الزمخشري قال‏:‏ كأنه قال ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال، وليكونوا ضلالاً، وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا‏.‏ ويبعد أن يكون دعاء قراءة من قرأ ليضلوا بضم الياء، إذ يبعد أن يدعو بأن يكونوا مضلين غيرهم، وهي قراءة الكوفيين، وقتادة والأعمش، وعيسى، والحسن، والأعرج بخلاف عنهما‏.‏ وقرأ الحرميان، والعربيان، ومجاهد، وأبو رجاء، والأعرج، وشيبة، وأبو جعفر، وأهل مكة‏:‏ بفتحها‏.‏ وقرأ الشعبي بكسرها، ولى بين الكسرات الثلاث‏.‏ وقيل‏:‏ لا محذوفة، التقدير لئلا يضلوا عن سبيلك قاله‏:‏ أبو علي الجبائي‏.‏ وقرأ أبو الفضل الرقاشي‏:‏ أإنك آتيت على الاستفهام‏.‏ ولما تقدم ذكر الأموال وهي أعز ما ادخر دعا بالطموس عليها وهي التعفية والتغيير أو الإهلاك‏.‏ قال ابن عباس، ومحمد بن كعب‏:‏ صارت دراهمهم حجارة منقوشة صحاحاً وأثلاثاً وأنصافاً، ولم يبق لهم معدن إلاطمس الله عليه فلم ينتفع بها أحد بعد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة‏.‏ وقال مجاهد وعطية‏:‏ أهلكها حتى لا ترى‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ صارت دنانيرهم ودراهمهم وفرشهم وكل شيء لهم حجارة‏.‏ قال محمد بن كعب‏:‏ سألني عمر بن عبد العزيز فذكرت ذلك له، فدعا بخريطة أصيبت بمصر فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير، وأنها الحجارة‏.‏ وقال قتادة، والضحاك، وأبو صالح، والقرطبي‏:‏ جعل سكرهم حجارة‏.‏

وقال السدي‏:‏ مسخ الله الثمار والنخل والأطعمة حجارة‏.‏ وقال شيخنا أبو عبد الله محمد بن سليمان المقدسي عرف بابن النقيب وهو جامع كتاب التحرير والتحبير في هذا الكتاب‏:‏ أخبرني جماعة من الصالحين كان شغلهم السياحة أنهم عاينوا بجبال مصر وبراريها حجارة على هيئة الدنانير والدراهم، وفيها آثار النقش، وعلى هيئة الفلوس، وعلى هيئة البطيخ العبد لاويّ، وهيئة البطيخ الأخضر، وعلى هيئة الخيار، وعلى هيئة القثاء، وحجارة مطولة رقيقة معوجة على هيئة النقوش، وربما رأوا على صورة الشجر‏.‏ واشدد على قلوبهم‏:‏ وقال ابن عباس ومقاتل والفراء والزجاج اطبع عليها وامنعها من الإيمان‏.‏ وقال ابن عباس أيضاً والضحاك‏:‏ أهلكهم كفاراً‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ اشدد عليها بالضلالة‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ قس قلوبهم‏.‏ وقال ابن بحر‏:‏ اشدد عليها بالموت‏.‏ وقال الكرماني‏:‏ أي لا يجدوا سلواً عن أموالهم، ولا صبراً على ذهابها‏.‏ وقرأ الشعبي وفرقة‏:‏ اطمُس بضم الميم، وهي لغة مشهورة‏.‏ فلا يؤمنوا مجزوم على أنه دعاء عند الكسائي والفراء، كما قال الأعشى‏:‏

فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى *** ولا تُلْفينّ إلا وأنفك راغم

ومنصوب على أنه جواب اشدد بدأ به الزمخشري، ومعطوف على ليضلوا على أنه منصوب قاله‏:‏ الأخفش وغيره‏.‏ وما بينهما اعتراض، أو على أنه مجزوم على قول من قال‏:‏ إن لام ليضلوا لام الدعاء، وكان رؤية العذاب غاية ونهاية، لأن الإيمان إذ ذاك لا ينفع ولا تخرج من الكفر، وكان العذاب الأليم غرقهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ قال محمد بن كعب‏:‏ كان موسى يدعو وهارون يؤمن، فنسبت الدعوة إليهما‏.‏ ويمكن أن يكونا دعوا، ويبعد قول من قال‏:‏ كنى عن الواحد بلفظ التثنية، لأن الآية تضمنت بعد مخاطبتهما في غير شيء‏.‏ وروي عن ابن جريج، ومحمد بن علي، والضحاك‏:‏ أن الدعوة لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة، وأعلما أن دعاءهما صادف مقدوراً، وهذا معنى إجابة الدعاء‏.‏ وقيل لهما‏:‏ لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون أي في أن تستعجلا قضائي، فإن وعدي لا خلف له‏.‏ وقرأ السلمي والضحاك‏:‏ دعواتكما على الجمع‏.‏ وقرأ ابن السميقع‏:‏ قد أجبت دعوتكما خبراً عن الله تعالى، ونصب دعوة والربيع دعوتيكما، وهذا يؤكد قول من قال‏:‏ إن هارون دعا مع موسى‏.‏ وقراءة دعوتيكما تدل على أنه قرأ قد أجبت على أنه فعل وفاعل، ثم أمرا بالاستقامة، والمعنى‏:‏ الديمومة عليها وعلى ما أمرتما به من الدعوة إلى الله تعالى، وإلزام حجة الله‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ تتبعان بتشديد التاء والنون، وابن عباس وابن ذكوان بتخفيف التاء وشد النون، وابن ذكوان أيضاً بتشديد التاء وتخفيف النون، وفرقة بتخفيف التاء وسكون النون، وروى ذلك الأخفش الدمشقي عن أصحابه عن ابن عامر، فأما شد النون فعلى أنها نون التوكيد الشديدة لحقت فعل النهي المتصل به ضمير الاثنين، وأما تخفيفها مكسورة فقيل‏:‏ هي نون التوكيد الخفيفة، وكسرت كما كسرت الشديدة‏.‏ وقد حكى النحويون كسر النون الخفيفة في مثل هذا عن العرب، ومذهب سيبويه والكسائي أنها لا تدخل هنا الخفيفة، ويونس والفراء يريان ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ النون المكسورة الخفيفة هي علامة الرفع، والفعل منفي، والمراد منه النهي، أو هو خبر في موضع الحال أي‏:‏ غير متبعين قاله الفارسي‏.‏ والذين لا يعلمون فرعون وقومه قاله‏:‏ ابن عباس‏.‏ أو الذين يستعجلون القضاء قبل مجيئه، ذكره أبو سليمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 92‏]‏

‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏90‏)‏ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏91‏)‏ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

قرأ الحسن وجوَّزنا بتشديد الواو، وتقدّم الكلام في الباء في ببني إسرائيل، وكم كان الذين جازوا مع موسى عليه السلام في سورة الأعراف‏.‏ وقرأ الحسن وقتادة فاتبعهم بتشديد التاء‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ وجاوزنا فاتبعهم رباعياً، قال الزمخشري‏:‏ وليس من جوز الذي في بيت الأعشى‏:‏

وإذا تجوزها جبال قبيلة *** لأنه لو كان منه لكان حقه أن يقال‏:‏ وجوزنا ببني إسرائيل في البحر كما قال‏:‏

كما جوز السبكي في الباب فينق *** انتهى

وقال الحوفي‏:‏ تبع واتبع بمعنى واحد‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فاتبعهم لحقهم، يقال‏:‏ تبعه حتى اتبعه‏.‏ وفي اللوامح‏:‏ تبعه إذا مشى خلفه، واتبعه كذلك، إلا أنه حاذاه في المشي واتبعه لحقه، ومنه العامة يعني‏:‏ ومنه قراءة العامة فاتبعهم وجنود فرعون قيل‏:‏ ألف ألف وستمائة ألف‏.‏ وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ وعدوا على وزن علو، وتقدمت في الإنعام‏.‏ وعدوا وعدوّا من العدوان، واتباع فرعون هو في مجاوزة البحر‏.‏ روي أن فرعون لما انتهى إلى البحر فوجده قد انفرق ومضى فيه بنو إسرائيل قال لقومه‏:‏ إنما انفلق بأمري، وكان على فرس ذكر فبعث الله إليه جبريل عليه السلام على فرس أنثى، ودنوا فدخل بها البحر ولج فرس فرعون ورآه وجنب الجيوش خلفه، فلما رأى أنّ الانفراق ثبت له استمر، وبعث الله ميكائيل عليه السلام يسوق الناس حتى حصل جميعهم في البحر فانطبق عليهم‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ أنه بفتح الهمزة على حذف الباء‏.‏ وقرأ الكسائي وحمزة‏:‏ بكسرها على الاستئناف ابتداء كلام، أو بدلاً من آمنت، أو على إضمار القول أي‏:‏ قائلاً إنه‏.‏ ولما لحقه من الدهش ما لحقه كرر المعنى بثلاث عبارات، إما على سبيل التلعثم إذ ذلك مقام تحار فيه القلوب، أو حرصاً على القبول ولم يقبل الله منه إذ فاته وقت القبول وهو حالة الاختيار وبقاء التكليف، والتوبة بعد المعاينة لا تنفع‏.‏ ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده‏}‏ وتقدم الخلاف في قراءة آلآن في قوله‏:‏ ‏{‏آلآن وقد كنتم‏}‏ والمعنى‏:‏ أتؤمن الساعة في حال الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك‏؟‏ قيل‏:‏ قال ذلك حين ألجمه الغرق‏.‏ وقيل‏:‏ بعد أنْ غرق في نفسه‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ والذي يحكى أنه حين قال‏:‏ آمنت، أخذ جبريل من حال البحر فدسه في فيه، فللغضب في الله تعالى على حال الكافر في وقت قد علم أن إيمانه لا ينفعه‏.‏ وأما ما يضم إليه من قولهم خشيت أن تدركه رحمة الله تعالى فمن زيادات الباهتين لله تعالى وملائكته، وفيه جهالتان‏:‏ إحداهما‏:‏ أنّ الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس، فحال البحر لا يمنعه‏.‏ والآخر‏:‏ أن من كره الإيمان للكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر، لأنّ الرضا بالكفر كفر‏.‏

والظاهر أن قوله‏:‏ آلآن إلى آخره من كلام الله له على لسان ملك‏.‏ فقيل‏:‏ هو جبريل‏.‏ وقيل‏:‏ ميكائيل‏.‏ وقيل‏:‏ غيرهما، لخطابه فاليوم ننجيك‏.‏ وقيل‏:‏ من قول فرعون في نفسه وإفساده وإضلاله الناس، ودعواه الربوبية‏.‏ ‏{‏إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كان يفسدون‏}‏ فاليوم ننجيك الظاهر أنه خبر‏.‏ وقيل‏:‏ هو استفهام فيه تهديد أي‏:‏ أفاليوم ننجيك‏؟‏ فهلا كان الإيمان قبل الإشراف على الهلاك، وهذا بعيد لحذف همزة الاستفهام ولقوله‏:‏ لتكون لمن خلفك لآية، لأنّ التعليل لا يناسب هنا الاستفهام‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ننجيك نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع، وببدنك بدرعك، وكان من لؤلؤ منظوم لا مثال له‏.‏ وقيل‏:‏ من ذهب‏.‏ وقيل‏:‏ من حديد وفيها سلاسل من ذهب‏.‏ والبدن بدن الإنسان، والبدن الدرع القصيرة‏.‏ قال‏:‏

ترى الأبدان فيها مسبغات *** على الأبطال والكلب الحصينا

يعني‏:‏ الدروع‏.‏ وقال عمرو بن معدي كرب‏:‏

أعاذل شكتي بدني وسيفي *** وكل مقلص سلس القياد

وكانت له درع من ذهب يعرف بها، وقيل‏:‏ نلقيك ببدنك عرياناً ليس عليك ثياب ولا سلاح، وذلك أبلغ في إهانته‏.‏ وقيل‏:‏ نخرجك صحيحاً لم يأكلك شيء من الدواب‏.‏ وقيل‏:‏ بدناً بلا روح قاله مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ نخرجك من ملكك وحيداً فريداً‏.‏ وقيل‏:‏ نلقيك في البحر من النجاء، وهو ما سلخته عن الشاة أو ألقيته عن نفسك من ثياب أو سلاح‏.‏ وقيل‏:‏ نتركك حتى تغرق، والنجاء الترك‏.‏ وقيل‏:‏ نجعلك علامة، والنجاء العلامة‏.‏ وقيل‏:‏ نغرقك من قولهم‏:‏ نجى البحر أقواماً إذا أغرقهم‏.‏ وقال الكرماني‏:‏ يحتمل أن يكون من النجاة وهو الإسراع أي‏:‏ نسرع بهلاكك‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ببدنك بصورتك التي تعرف بها، وكان قصيراً أشقر أزرق قريب اللحية من القامة، ولم يكن في بني إسرائيل شبيه له يعرفونه بصورته، وببدنك إذا عنى به الجثة تأكيد كما تقول‏:‏ قال فلان بلسانه وجاء بنفسه‏.‏

وقرأ يعقوب‏:‏ ننجيك مخففاً مضارع أنجى‏.‏ وقرأ أبيّ، وابن السميقع، ويزيد البربري‏:‏ ننحيك بالحاء المهملة من التنحية‏.‏ ورويت عن ابن مسعود أي‏:‏ نلقيك بناحية مما يلي البحر‏.‏ قال كعب‏:‏ رماه البحر إلى الساحل كأنه ثور‏.‏ وقرأ أبو حنيفة‏:‏ بأبدانك أي بدروعك، أو جعل كل جزء من البدن بدناً كقولهم‏:‏ شابت مفارقه‏.‏ وقرأ ابن مسعود، وابن السميقع‏:‏ بندائك مكان ببدنك، أي‏:‏ بدعائك، أي بقولك آمنت إلى آخره‏.‏ لنجعلك آية مع ندائك الذي لا ينفع، أو بما ناديت به في قومك‏.‏ ونادى فرعون في قومه فحشر فنادى فقال‏:‏ أنا ربكم الأعلى، ويا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري‏.‏ ولما كذبت بنو إسرائيل بغرق فرعون رمى به البحر على ساحله حتى رأوه قصيراً أحمر كأنه ثور‏.‏

لمن خلفك لمن وراءك علامة وهم بنو إسرائيل، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق، وكان مطرحه على ممر بني إسرائيل حتى قيل لمن خلفك آية‏.‏ وقيل‏:‏ لمن يأتي بعدك من القرون، وقيل‏:‏ لمن بقي من قبط مصر وغيرهم‏.‏ وقرئ‏:‏ لمن خلفك بفتح اللام أي‏:‏ من الجبابرة والفراعنة ليتعظوا بذلك، ويحذروا أن يصيبهم ما أصابك إذا فعلوا فعلك‏.‏ ومعنى كونه آية‏:‏ أن يظهر للناس عبوديته ومهانته، أو ليكون عبرة يعتبر بها الأمم‏.‏ وقرأت فرقة‏:‏ لمن خلقك من الخلق وهو الله تعالى أي‏:‏ ليجعلك الله آية له في عباده‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ليكون طرحك على الساحل وحدك، وتمييزك من بين المغرقين لئلا يشتبه على الناس أمرك، ولئلا يقولوا لادعائك العظمة‏:‏ إنَّ مثله لا يغرق ولا يموت، آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وإنَّ كثيراً من الناس ظاهره الناس كافة، قاله الحسن‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ من أهل مكة عن آياتنا أي‏:‏ العلامات الدالة على الوحدانية وغيرها من صفنات العلى، لغافلون لا يتدبرون، وهذا خبر في ضمنه توعد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى ما جرى لفرعون وأتباعه من الهلاك، ذكر ما أحسن به لبني إسرائيل وما امتن به عليهم، إذ كان بنو إسرائيل قد أخرجوا من مساكنهم خائفين من فرعون، فذكر تعالى أنه اختار لهم من الأماكن أحسنها‏.‏ والظاهر أنّ بني إسرائيل هم الذين كانوا آمنوا بموسى ونجوا من الغرق، وسياق الآيات يشهد لهم‏.‏ وقيل‏:‏ هم الذين كانوا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل قريظة والنضير وبني قينقاع، وانتصب مبوأ صدق على أنه مفعول ثان لبوأنا كقوله‏:‏ ‏{‏لنبوئنهم من الجنة غرفاً‏}‏ وقيل‏:‏ يجوز أن يكون مصدراً‏.‏ ومعنى صدق أي‏:‏ فضل وكرامة ومنة ‏{‏في مقعد صدق‏}‏ وقيل‏:‏ مكان صدق الوعد، وكان وعدهم فصدقهم وعده‏.‏ وقيل‏:‏ صدق تصدّق به عليهم، لأن الصدقة والبر من الصدق‏.‏ وقيل‏:‏ صدق فيه ظن قاصده وساكنه‏.‏ وقيل‏:‏ منزلاً صالحاً مرضياً، وعن ابن عباس‏:‏ هو الأردن وفلسطين‏.‏ وقال الضحاك وابن زيد، وقتادة‏:‏ الشام وبيت المقدس‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ بيت المقدس‏.‏ وعن الضحاك أيضاً‏:‏ مصر، وعنه أيضاً‏:‏ مصر والشام‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والأصح أنه الشام وبيت المقدس بحسب ما حفظ من أنهم لم يعودوا إلى مصر، على أنه في القرآن كذلك‏.‏ ‏{‏وأورثناها بني إسرائيل‏}‏ يعني ما ترك القبط من جنات وعيون وغير ذلك‏.‏ وقد يحتمل أن يكون وأورثناها معناها الحالة من النعمة وإن لم تكن في قطر واحد انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ ما بين المدينة والشام من أرض يثرب ذكره علي بن أحمد النيسابوري، وهذا على قول من قال‏:‏ إن بني إسرائيل هم الذين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولما ذكر أنه بوّأهم مبوّأ صدق ذكر امتنانه عليهم بما رزقهم من الطيبات وهي‏:‏ المآكل المستلذات، أو الحلال، فما اختلفوا أي‏:‏ كانوا على ملة واحدة وطريقة واحدة مع موسى عليه السلام في أول حاله، حتى جاءهم العلم أي‏:‏ علم التوراة فاختلفوا، وهذا ذم لهم‏.‏ أي أن سبب الإيقاف هو العلم، فصار عندهم سبب الاختلاف، فتشعبوا شعباً بعدما قرؤوا التوراة‏.‏ وقيل‏:‏ العلم بمعنى المعلوم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لأن رسالته كانت معلومة عندهم مكتوبة في التوراة، وكانوا يستفتحون به أي‏:‏ يستنصرون، وكانوا قبل مجيئه إلى المدينة مجمعين على نبوّته يستنصرون به في الحروب يقولون‏:‏ اللهم بحرمة النبي المبعوث في آخر الزمان انصرنا فينصرون، فلما جاء قالوا‏:‏ النبي الموعود به من ولد يعقوب، وهذا من ولد إسماعيل، فليس هو ذاك، فآمن به بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه‏.‏ وقيل‏:‏ العلم القرآن، واختلافهم قول بعضهم هو من كلام محمد، وقول بعضهم من كلام الله وليس لنا إنما هو للعرب‏.‏ وصدق به قوم فآمنوا، وهذا الاختلاف لا يمكن زواله في الدنيا، وأنه تعالى يقضي فيه في الآخرة فيميز المحق من المبطل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 95‏]‏

‏{‏فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏94‏)‏ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

الظاهر أنّ إنْ شرطية‏.‏ وروي عن الحسن والحسين بن الفضل أنّ إنْ نافية‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ أي مما كنت في شك فسئل، يعني‏:‏ لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك، ولكن لتزداد يقيناً كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى انتهى‏.‏ وإذا كانت إن شرطية فذكروا أنها تدخل على الممكن وجوده، أو المحقق وجوده، المنبهم زمان وقوعه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفإن مت فهم الخالدون‏}‏ والذي أقوله‏:‏ إنّ إنْ الشرطية تقتضي تعليق شيء على شيء، ولا تستلزم تحتم وقوعه ولا إمكانه، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين‏}‏ ومستحيل أن يكون له ولد، فكذلك هذا مستحيل أن يكون في شك، وفي المستحيل عادة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية‏}‏ أي فافعل‏.‏ لكنّ وقوع إن للتعليق على المستحيل قليل، وهذه الآية من ذلك‏.‏ ولما خفي هذا الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج هذه الآية، فقال ابن عطية‏:‏ الصواب أنها مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك أو يعارض انتهى‏.‏ ولذلك جاء‏:‏ ‏{‏قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني‏}‏ وقال قوم‏:‏ الكلام بمنزلة قولك‏:‏ إن كنت ابني فبرني، وليس هذا المثال بجيد، وإنما مثال هذه قوله تعالى لعيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏أأنت قلت للناس‏}‏ انتهى‏.‏ وهذا القول مروي عن الفراء‏.‏ قال الكرماني‏:‏ واختاره جماعة، وضعف بأنه يُصير تقدير الآية‏:‏ أأنت في شك‏؟‏ إذ ليس في الآية ما يدل على نفي الشك‏.‏ وقيل‏:‏ كنى هنا بالشك عن الضيق أي‏:‏ فإن كنت في ضيق من اختلافهم فيما أنزل إليك وتعنتهم عليك‏.‏ وقيل‏:‏ كنى بالشاك عن العجب أي‏:‏ فإن كنت في تعجب من عناد فرعون‏.‏ ومناسبة المجاز أنّ التعجب فيه تردد، كما أن الشك تردد بين أمرين‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ معناه إن كنت في شك أنّ هذا عادتهم مع الأنبياء فسلهم كيف كان صبر موسى عليه السلام حين اختلفوا عليه‏؟‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن كنت في شك بمعنى العرض والتمثيل، كأنه قيل‏:‏ فإن وقع لك شك مثلاً وخيل لك الشيطان خيالاً منه تقديراً فسئل الذين يقرؤون الكتاب، والمعنى‏:‏ أن الله تعالى قدم ذكر بني إسرائيل وهم قرأة الكتاب، ووصفهم بأن العلم قد جاءهم، لأنّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فأراد أن يؤكد عليهم بصحة القرآن وصحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، ويبالغ في ذلك فقال تعالى‏:‏ فإن وقع لك شك فرضاً وتقديراً وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حلها وإماطتها، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته، وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحق انتهى‏.‏

وقيل أقوال غير هذه، وقرأ يحيى وابراهيم‏:‏ يقرؤون الكتب على الجمع‏.‏ والحق هنا‏:‏ الإسلام، أو القرآن، أو النبوة، أو الآيات، والبراهين القاطعة، أقوال‏:‏ فاثبت ودم على ما أنت فيه من انتفاء المرية والتكذيب، والخطاب للسامع غير الرسول‏.‏ وكثيراً ما يأتي الخطاب في ظاهره لشخص، والمراد غيره، وروي أنه عليه السلام قال‏:‏ «لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق» وعن ابن عباس‏:‏ والله ما شك طرفة عين، ولا سأل أحداً منهم‏.‏ والامتراء التوقف في الشيء والشك فيه، وأمره أسهل من أمر المكذب فبدئ به أولاً‏.‏ فنهى عنه، واتبع بذكر المكذب ونهى أن يكون منهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 97‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏96‏)‏ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

ذكر تعالى عباداً قضى عليهم بالشقاوة فلا تتغير، والكلمة التي حقت عليهم قال قتادة‏:‏ هي اللعنة والغضب‏.‏ وقيل‏:‏ وعيده أنهم يصيرون إلى العذاب‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ قول الله تعالى الذي كتب في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفاراً فلا يكون غيره، وتلك كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد الله تعالى عن ذلك انتهى‏.‏ وكلامه أخيراً على طريقة الاعتزال‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ المراد من هذه الكلمة كلم الله بذلك، وإخباره عنه، وخلقه في العبد مجموع القدرة، والداعية وهو موجب لحصول ذلك الأمر‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ المعنى أنّ الله أوجب لهم سخطه من الأزل وخلقهم لعذابه، فلا يؤمنون ولو جاءهم كل بيان وكل وضوح إلا في الوقت الذي لا ينفعهم فيه الإيمان، كما صنع فرعون وأشباهه، وذلك وقت المعاينة‏.‏ وفي ضمن الألفاظ التحذير من هذه الحال، وبعث كل على المبادرة إلى الإيمان والفرار من سخط الله‏.‏ ويجوز أن يكون العذاب الأليم عند تقطع أسبابهم يوم القيامة، وتقدم الخلاف في قراءة كلمة بالإفراد وبالجمع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏98‏)‏‏}‏

لولا هنا هي التحضيضية التي صحبها التوبيخ، وكثيراً ما جاءت في القرآن للتحضيض، فهي بمعنى هلا‏.‏ وقرأ أبي وعبد الله فهلا، وكذا هو في مصحفيهما، والتحضيض أن يريد الإنسان فعل الشيء الذي يحض عليه، وإذا كانت للتوبيخ فلا يريد المتكلم الحض على ذلك الشيء، كقول الشاعر‏:‏

تعدون عقر النيب أفضل مجدكم *** بني ضوطري لولا الكمى المقنعا

لم يقصد حضهم على عقر الكمى المقنع، وهنا وبخهم على ترك الإيمان النافع‏.‏ والمعنى‏:‏ فهلا آمن أهل القرية وهم على مهل لم يلتبس العذاب بهم، فيكون الإيمان نافعاً لهم في هذه الحال‏.‏ وقوم منصوب على الاستثناء المنقطع، وهو قول سيبويه والكسائي والفراء والأخفش، إذ ليسوا مندرجين تحت لفظ قرية‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون متصلاً، والجملة في معنى النفي كأنه قيل‏:‏ ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ هو بحسب اللفظ استثناء منقطع، وكذلك رسمه النحويون، وهو بحسب المعنى متصل، لأنّ تقديره ما آمن أهل قرية إلا قوم يونس، والنصب هو الوجه، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا النصب، وذلك مع انقطاع الاستثناء‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ يجوز فيه الرفع، وهذا مع اتصال الاستثناء‏.‏ وقال المهدوي‏:‏ والرفع على البدل من قرية، وقال الزمخشري‏:‏ وقرئ بالرفع على البدل عن الحرمي والكسائي، وتقدم الخلاف في قراءة يونس بضم النون وكسرها، وذكر جواز فتحها‏.‏

وقوم يونس‏:‏ هم أهل نينوي من بلاد الموصل، كانوا يعبدون الأصنام، فبعث الله إليهم يونس فأقاموا على تكذيبه سبع سنين، وتوعدهم العذاب بعد ثلاثة أيام‏.‏ وقيل‏:‏ بعد أربعين يوماً‏.‏ وذكر المفسرون قصة قوم يونس وتفاصيل فيها، وفي كيفية عذابهم الله أعلم بصحة ذلك، ويوقف على ذلك في كتبهم‏.‏ وقال الطبري‏:‏ وذكره عن جماعة أن قوم يونس خصوا من بين الأمم بأن ينب عليهم بعد معاينة العذاب‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هؤلاء دنا منهم العذاب ولم يباشرهم كما باشر فرعون، فكانوا كالمريض الذي يخاف الموت ويرجو العافية، فأما الذي يباشره العذاب فلا توبة له‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ علم منهم صدق النيات بخلاف من تقدمهم من الهالكين‏.‏ قال السدي‏:‏ إلى حين، إلى وقت انقضاء آجالهم‏.‏ وقيل‏:‏ إلى يوم القيامة، وروي عن ابن عباس‏.‏ ولعله لا يصح، فعلى هذا يكونون باقين أحياء، وسترهم الله عن الناس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 100‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏99‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

قيل‏:‏ نزلت في أبي طالب، لأنه صلى الله عليه وسلم أسف بموته على ملة عبد المطلب وكان حريصاً على إيمانه‏.‏ ولما كان أحرص الناس على هدايتهم وأسعى في وصول الخير إليهم والفوز بالإيمان منهم وأكثر اجتهاداً في نجاة العالمين من العذاب، أخبره تعالى أنه خلق أهلاً للسعادة وأهلاً للشقاوة، وأنه لو أراد إيمانهم كلهم لفعل، وأنه لا قدرة لأحد على التصرف في أحد‏.‏ والمقصود بيان أنّ القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا له تعالى‏.‏ وتقديم الاسم في الاستفهام على الفعل يدل على إمكان حصول الفعل، لكن من غير ذلك الإسم فللَّه تعالى أن يكره الناس على الإيمان لو شاء، وليس ذلك لغيره‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ولو شاء ربك مشيئة القسر وإلالجاء لآمن من في الأرض كلهم على وجه الإحاطة والشمول جميعاً، مجتمعين على الإيمان، مطبقين عليه، لا يختلفون ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفأنت تكره الناس‏}‏ يعني إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم على الإيمان هؤلاء أنت‏.‏ وإتلاء الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأنّ الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الشان في المكره من هو، وما هو إلا هو وحده ولا يشارك فيه، لأنه تعالى هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان، وذلك غير مستطاع للبشير انتهى‏.‏ وقوله‏:‏ مشيئة القسر والإلجاء هو مذهب المعتزلة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ المعنى أنّ هذا الذي تقدم ذكره إنما كان جميعه بقضاء الله عليهم ومشيئته فيهم، ولو شاء الله لكان الجميع مؤمناً، فلا تتأسف أنت يا محمد على كفر من لم يؤمن بك، وادع ولا عليك، فالأمر محتوم‏.‏ أتريد أنت أن تكره الناس بإدخال الإيمان في قلوبهم، وتضطرهم إلى ذلك والله عز وجل قد شاء غيره‏؟‏ فهذا التأويل الآية عليه محكمة أي‏:‏ ادع وقاتل من خالفك، وإيمان من آمن مصروف إلى المشيئة‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ المعنى أفأنت تكره الناس بالقتال حتى يدخلوا في الإيمان‏؟‏ وزعمت أن هذه الآية في صدر الإسلام، وأنها منسوخة بآية السيف، والآية على كلا التأويلين رادة على المعتزلة انتهى‏.‏ ولذلك ذهب الزمخشري إلى تفسير المشيئة بمشيئة القسر والإلجاء، وهو تفسير الجبائي والقاضي‏.‏ ومعنى إلا بإذن الله‏.‏ أي بإرادته وتقديره لذلك والتمكن منه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ بتسهيله وهو منح الإلطاف‏.‏ ويجعل الرجس‏:‏ وهو الخذلان على الذين لا يعقلون، وهم المصرون على الكفر‏.‏ وسمى الخذلان رجساً وهو العذاب، لأنه سببه انتهى‏.‏ وهو على طريق الاعتزال‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الرجس السخط، وعنه الإثم والعذوان‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ما لا خير فيه‏.‏ وقال الحسن، وأبو عبيدة، والزجاج‏:‏ العذاب‏.‏ وقال الفراء‏:‏ العذاب والغضب‏.‏ وقال الحسن أيضاً‏:‏ الكفر‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الشيطان، وقد تقدّم تفسيره، ولكن نقلنا ما قاله العلماء هنا‏.‏ وقرأ أبو بكر، وزيد بن علي‏:‏ ونجعل بالنون، وقرأ الأعمش‏:‏ ويجعل الله الرجز بالزاي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 102‏]‏

‏{‏قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏101‏)‏ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

أمر تعالى بالفكر فيما أودعه تعالى في السموات والأرض، إذ السبيل إلى معرفته تعالى هو بالتفكر في مصنوعاته، ففي العالم العلوي في حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها والكواكب، وما يختص بذلك من المنافع والفوائد، وفي العالم السفلي في أحوال العناصر والمعادن والنبات والحيوان، وخصوصاً حال الإنسان‏.‏ وكثيراً ما ذكر الله تعالى في كتابه الحض على الفكر في مخلوقاته تعالى وقال‏:‏ ماذا في السموات والأرض تنبيهاً على القاعدة الكلية، والعاقل يتنبه لتفاصيلها وأقسامها‏.‏ ثم لما أمر بالنظر أخبر أنه من لا يؤمن لا تغنيه الآيات‏.‏

والنذر جمع نذير، إما مصدر فمعناه الإنذارات، وإما بمعنى منذر فمعناه المنذرون والرسل‏.‏ وما الظاهر أنها للنفي، ويجوز أن تكون استفهاماً أي‏:‏ وأي شيء تغني الآيات وهي الدلائل‏؟‏ وهو استفهام على جهة التقرير‏.‏ وفي الآية توبيخ لحاضري رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين‏.‏ وقرأ الحرميان، والعربيان، والكسائي‏:‏ قل انظروا بضم اللام، وقرئ‏:‏ وما تغني بالتاء، وهي قراءة الجمهور وبالياء‏.‏ وماذا يحتمل أن يكون استفهاماً في موضع رفع بالابتداء، والخبر في السموات‏.‏ ويحتمل أن يكون الخبر ذا بمعنى الذي، وصلته في السموات‏.‏ وانظروا معلقة، فالجملة الابتدائية في موضع نصب، ويبعد أن تكون ماذا كله موصولاً بمعنى الذي، ويكون مفعولاً لقوله‏:‏ انظروا، لأنه إن كانت بصرية تعدت بإلى، وإن كانت قلبية تعدت بفي‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن تكون ما في قوله‏:‏ وما تغني، مفعولة لقوله‏:‏ انظروا، معطوفة على قوله‏:‏ ماذا أي‏:‏ تأملوا نذر غنى الآيات‏.‏ والنذر عن الكفار إذا قبلوا ذلك، كفعل قوم يونس، فإنه يرفع العذاب في الدنيا والآخرة وينجي من الهلكات‏.‏ والآية على هذا تحريض على الإيمان، وتجوز اللفظ على هذا التأويل، إنما هو في قوله‏:‏ لا يؤمنون انتهى‏.‏ وهذا احتمال فيه ضعف‏.‏ وفي قوله‏:‏ مفعولة معطوفة على قوله ماذا، تجوز يعني أنّ الجملة الاستفهامية التي هي ماذا في السموات والأرض في موضع المفعول، لأنّ ماذا منصوب وحده بانظروا، فيكون ماذا موصولة‏.‏ وانظروا بصرية لما تقدم، والأيام هنا وقائع الله فيم، كما يقال أيام العرب لوقائعها‏.‏ وفي الاستفهام تقرير وتوعد، وحض على الإيمان، والمعنى‏:‏ إذا لجوا في الكفر حل بهم العذاب، وإذا آمنوا نجوا، هذه سنة الله في الأمم الخالية‏.‏ قل فانتظروا أمر تهديد أي‏:‏ انتظروا ما يحل بكم كما حل بمن قبلكم من مكذبي الرسل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

لما تقدم قوله‏:‏ فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم، وكان ذلك مشعراً بما حل بالأمم الماضية المكذبة ومضرحاً بهلاكهم في غير ما آية، أخبر تعالى عن حكاية حالهم الماضية فقال‏:‏ ثم ننجي رسلنا، والمعنى‏:‏ إن الذين خلوا أهلكناهم لما كذبوا الرسل، ثم نجينا الرسل والمؤمنين‏.‏ ولذلك قال الزمخشري‏:‏ ثم ننجي معطوف على كلام محذوف يدل عليه إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم، كأنه قيل‏:‏ نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا على مثل الحكايات الماضية‏.‏ والظاهر أن كذلك في موضع نصب تقديره‏:‏ مثل ذلك الإنجاء الذي نجينا الرسل ومؤمنيهم، ننجي من آمن بك يا محمد، ويكون حقاً على تقدير‏:‏ حق ذلك حقاً‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ يجوز أن يكون حقاً بدلاً من المحذوف النائب عنه الكاف تقديره‏:‏ إنجاء مثل ذلك حقاً‏.‏ وأجاز أن يكون كذلك، وحقاً منصوبين بننجي التي بعدهما، وأن يكون كذلك منصوباً بننجي الأولى، وحقاً بننجي الثانية، وأجاز هو تابعاً لابن عطية أن تكون الكاف في موضع رفع، وقدره الأمر كذلك‏:‏ وحقاً منصوب بما بعدها‏.‏ وقال الزمخشري مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين، وحقاً علينا اعتراض يعني حق ذلك علينا حقاً‏.‏ قال القاضي‏:‏ حقاً علينا المراد به الوجوب، لأن تخليص الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من العذاب إلى الثواب واجب، ولولاه ما حسن من الله أن يلزمهم‏:‏ الأفعال الشاقة‏.‏ وإذا ثبت لهذا السبب جرى مجرى قضاء الدين للسبب المتقدّم، وأجيب بأنه حق‏.‏ بحسب الوعد والحكم لا بحسب الاستحقاق، لما ثبت أن العبد لا يستحق على خالقه شيئاً‏.‏ وقرأ الكسائي، وحفص‏:‏ ننجي المؤمنين بالتخفيف مضارع أنجى، وخط المصحف ننج بغير ياء‏.‏